إقليم أوسرد.. لكْلات.. صحراء الوفاء تروي ذاكرة الوطن

إقليم أوسرد.. لكْلات.. صحراء الوفاء تروي ذاكرة الوطن
في صبيحة الثامن عشر من نونبر 2025، ومع بزوغ فجر الذكرى السبعين لاستقلال المغرب، شدّت جريدة "أنفاس بريس" رحالها من الداخلة، في رحلة امتدت على الطريق الوطنية رقم 3 نحو الجنوب الشرقي، والضبط نحو منطقة "لكلات" الواقعة في عمق إقليم أوسرد بجهة وادي الذهب.
 
صباح ذلك اليوم كانت الأعلام الوطنية الممتدة على جنبات شارع الولاء ترفرف بشدة جراء الرياح القوية التي عرفتها الداخلة، أوصانا مرافقنا بضرورة ارتداء ما يسعفنا لتحمل هذه الرياح التي قد تتحول إلى عواصف رملية..
 
الساعة تشير إلى الثامنة والنصف صباحا، كانت الشمس تظهر ببطء في أفق الصحراء المضيء، ومن كثرة حديث المرافق عن "الكلات"، بدت الطريق إليها كأنها رحلة نحو الذات، لا مجرد سفرٍ جغرافي. 
 
من الطريق الوطنية رقم واحد، المؤدية إلى معبر الكركرات، تم الانحراف يسارا نحو الطريق الوطنية رقم 3، حيث تم وضع علامة مرورية تحمل المسافة المؤدية نحو أوسرد 216 كلم ونحو تشلا 346 كلم..
 
أكد المرافق الذي كان يتمسك جيدا بمقود السيارة رباعية الدفع، أن أرض تيرس والكلات هي امتداد واحد ما تزال تنبض بصوت التاريخ، وبطولات الآباء والأجداد، ما زالت تروى على طبلة الشاي، فهي حكايات يرويها الآباء عن الأجداد للأحفاد، أرض تتنفس ذاكرة الاستقلال التي أزهرت في قلب الصحراء.
 
مع إشراقة الشمس كانت جنبات الطريق المزهرة ببعض الأعشاب وكذا الكثبان الرملية تلمع بلون الذهب المائل للبرتقالي، وكأنها تلبس حُلّة العيد في ذكرى استقلال الوطن. 
 
أشجار الطلح تصطفّ في المدى شاهدة على الذاكرة والتاريخ، بعضُها مائل بفعل الرياح، لكن جذورها مغروسة كالعقيدة التي حارب بها أهل الصحراء من قبيلة أولاد الدليم وباقي القبائل، وهي العقيدة التي كانت خلفية دينية لمقاومتهم ضد "النصارى" حتى حدود مالي، في الوقت الذي كان المجال البيضاني واحد ولا مجال فيه لحدود استعمارية..
 
على جنبات الطريق، وبين الفينة والأخرى، تتوقف سيارة أو أكثر، تظهر من تجمعاتهم طبلة الشاي بكل مكوناته وشروطه، جمر وجر وجماعة، فيما خيام الكسابة الرحل تظهر في عمق جنبات الطريق، ولم نجد غير الترحيب ونحن ننال قسطا من الراحة عندما نزلنا ضيوفا على إحدى الأسر، لشرب الشاي الصباحي بكؤوسه الثلاث، وهي من شروط صحته.. ولأهل الصحراء قصص عشق مع أجواء البوادي، وخصوصا منطقة تيرس التي تغنى بها الشعراء وصيغت حولها القصائد..
 
في البعيد، تسير قوافل الإبل بخطى ثابتة، فيما كانت صغارها، تجري جريا، إبل تروي حكاية الكرامة والبقاء، بل تتسيد الطريق، لتقف السيارات وغيرها من المركبات، فاسحة لها طريق المرور إلى الضفة الأخرى.. 
 
وادي الجنة، له من اسمه نصيب، ففي عمق الصحراء، ينتصب ذلك الشريط الأخضر على فرشة مائية تحت الرمل والحجر. شريط أخضر لمختلف الأشجار والنباتات والأعشاب يهمس للحياة بألا تغيب عن الصحراء مهما اشتد الجفاف وطالت سنواته.
 
وهناك تحت ظل الطلح، كان بعض الأطفال بضحكاتهم الصافية يلعبون أو يتبعون خطى صغار الإبل، فيما يجلس الشيوخ متكئين على جنوبهم يتبادلون حديث الزمن القديم عن المقاومة باستحضار التاريخ، قال أحدهم بصوتٍ متعبٍ لكنه مفعم بالفخر: “الصحراء لا تنسى أبناءها، وكلها يعرف بلدو "أي بلده"، ومن سقَوا ترابها بعرقهم أو دمائهم، حاضرون معنا بأرواحهم إلى اليوم، ونعيش معهم لحظات الجهاد".
 
حين انحرفت السيارة إلى الطريق المعبدة يمينا، على بعد 22 كيلومترًا من أوسرد، بدأ المشهد يتغيّر. الصخور الداكنة تعكس نور الشمس كمرآةٍ للذكريات، والجبال القريبة تنتصب بخشوعٍ كأنها تحرس سرّ المكان. وبدأ الشوق يرتفع لاستكشاف مكان سارت به الركبان.
 
 هنا تبدأ “لكْلات” بمعناها الحقيقي، ليست مجرد أرض، بل صفحة ناصعة من كتاب المقاومة المغربية في الجنوب.
 
 من هنا بدأ شيء من رهبة التاريخ، تغمض عينيك لتتخيل رائحة البارود، وأنين المقاتلين، وصدى التكبيرات التي دوّت قبل سبعين عامًا في وجوه المستعمر. أصواتٌ من القلب تصعد للسماء فتترك الذعر لدى المستعمر..
 
توقفت بنا السيارة عند حدود منتصف النهار، درجة حرارة متوسطة ورياح قوية، انتصبت الخيام هنا وهناك، وحركة كبيرة، أبطالها صغار وشبان، صعدوا الهضاب والجبال، وكأنهم يحاكون بطولات آبائهم وأجدادهم، عندما كانوا يتخذون من الجبال أماكن لصد الهجومات ضد المستعمر، فيما كانت الخيام الرئيسية المخصصة لملتقى "الكلات" تعرف آخر اللمسات مع تشديد أركانها وتثبيت أعمدتها بعد أن أسقطت الرياح عددا منها.
 
"الكلات" هي نهاية السير عبر السيارة، لكنها بداية رحلة مشي طويلة على الكثبان الرملية مختبرة صبر من يمشي عليها، في تجربة تسترجع فيها صلابة المجاهدين من أهل الصحراء..
 
 
تعني "الكلات"، الأحواض المائية الصخرية، والطريق إليها، كان صعبا، حيث الصخور والاحجار، وسط الجبال، وهناك وجدت "جريدة "أنفاس بريس" عددا من القبور التي تؤرخ أسماؤها وبيانات أصحابها، لرجال تصدوا للمستعمرين الفرنسي والإسباني، وكيف بذلوا أرواحهم من أجل الدفاع عن الوطن، وتحمل منطقة “لكْلات” اسم معركة خالدة في تاريخ المنطقة، وقعت سنة 1958، حيث كانت لكلات أرضا عنيدة وعصية على المستعمر الفرنسي، كما سطرت قيادات المقاومة الوطنية ورجالاتها على أرضها ملامح البطولة والأنفة والشهامة والنخوة، مما جعل ذكراها التي تتزامن واستقلال البلاد ناصعة ومتوارثة بين الأجيال. 
 
ولأن الذكرى كانت هي استقلال البلاد، فقد كانت زيارة عدد من المواطنين بشكل فردي أو جماعي لهذه القبور، فرصة للترحم على ساكنيها.. لتختم الزيارة بصعود الجبل والنزول، لتجد نفسك أمام حوض مائي بين الصخور، وقد تلألأت مياهه، تنزل إليه لتشرب منه، وترى وجهك فيه من أثر التعب لساعات طويلة..
 
 تعود من حيث أتيت وسط الخيام، فتجد بأن أفواجا من الناس قد التحقت بالملتقى، من الجنسين والأعمار، حيث اجتمع أكثر من 1500 شخص من قبائل وأقاليم جهة الداخلة وادي الذهب، ووفود من جهة العيون الساقية الحمراء، امتزج فيها الفخر بالحزن، والعزيمة بالحب. 
 
ترى تلك الوجوه المشرقة بالشمس وهي تنظر إلى الأفق البعيد، وترفع عيونها عالية تنظر إلى قمم الجبال، كما لو أنها تبحث عن ظلّ أولئك الذين رحلوا لتبقى الراية المغربية مرفوعة.
 
في إحدى الخيام، جلست عائشة تمسِك صورة والدها الذي استشهد في معركة “إيكوفيون” عام 1958. عيناها تلمعان كأنهما تريان المشهد من جديد، وقالت بصوتٍ تغلبه الدموع: “كان أبي يقول: الوطن أولًا، ثم كل شيء بعده. اليوم وأنا فوق التراب الذي ابتلع دمه، أشعر أنه لم يغب قط. هو في ذرات الرمل، وفي وجوه الناس التي تبتسم رغم كل شيء”.
 
قريبًا منها، قال محمد، ابن أحد المقاومين: “ما كان أبي يخاف من الموت، لكنه كان يخاف أن تنسى الأجيال ما حدث هنا. أخبرنا دوما أن الاستقلال لا يبدأ بانسحاب المستعمر، بل حين نعرف معنى التضحية”.
 
وفي الجانب الآخر من الساحة، رفع شاب يُدعى سالم صورته لجده الشهيد وقال بصوتٍ متماسك: “جدي دافع بسلاحه، وأنا أدافع بالكلمة. هذه أرضنا، وحكايتنا، ولا يمكن أن نسمح لزمن النسيان أن يبتلعها.
 
 
في ملتقى "الكلات"، توالت الكلمات مستحضرة ارواح الشهداء، وجهادهم ووطنيتهم، داعين الخلف إلى اتباع نهج السلف، وبعدها توجه الجمع نحو القبور، حيث ارتفعت قراءة الفاتحة بشكل جماعي مع الدعاء، وكان الصمت الذي خيم على المكان أبلغ من أي خطاب، ورياح تمرّ خافتة كأنها تردد الدعاء نفسها: “الرحمة للشهداء، والعهد على الاستمرار”. 
 
بدأت السيارات والحافلات تغادر المكان حين بدأت الشمس تغيب خلف الكثبان، مخلفة سكونا مهيبا خيم على “لكْلات”، وكأن الغروب نقطة أخيرة في قصيدة طويلة اسمها المغرب. غادرت القافلة المكان، لكن في القلوب بقي شيء من دفئه، وكأن “لكْلات” لم تكن محطة، بل مرآة يرى فيها زوار ذلك اليوم صورة وطنهم في سنوات الخمسينيات حين كان المجاهدون يصنعون تاريخهم المجيد بالصبر والإيمان.
 
“لكْلات”، ومن خلال شهادات عدد من الزوار لجريدة "أنفاس بريس" ليست موقعا جغرافيا فقط، بل ذاكرة حية تسكن الصحراء، كما يسكن النبض في القلب. وكما قال قريب أحد الشهداء فالاستقلال لا يُقاس بالسنوات، بل بالعهد المتجدّد بين الأرض وأبنائها، وكيف أن كل حجر وسدرة في هذه الصحراء تروي قصة الوفاء المستمر لوطن لا يموت.