المصطفى رياني يعد التواصل تعبيرا عن التفاعل بين الأفراد والجماعات بواسطة الحوار والحجاج قصد تحقيق التفاهم عن طريق الإقناع في الفضاء العمومي، وعدم الإقصاء بسبب العرق والنوع أو اللون، باعتماد أخلاقيات المناقشة للوصول إلى التفاهم والحلول لمشاكل المجتمع المعاصر. وحسب يورغن هابرماس يعتمد التواصل على الموضوعية والنزاهة والمصداقية وعدم السقوط في التضليل والكذب بهدف الاندماج في مجتمع الحقوق والواجبات، حيث الفرد يأخذ بعدا جديدا ويتحول إلى مواطن مساهم برأيه في الشأن العام وبلورة مواقف وآراء في ما يخص القضايا التي تشغل اهتمامه إلى جانب الرأي العام في الفضاء العمومي داخل المجتمع.
1- العقل التواصلي في الفضاء العمومي
يعتبر يورغن هابرماس رائدا من رواد مدرسة فرانكفورد النقدية الألمانية والعقل المفكر للدولة والمجتمع الألماني المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم.عالج في مشروعه الفكري إشكالية التواصل في كتابه " أخلاق التواصل"، مميزا بين العقل الأداتي والعقل التواصلي. ويرى أن العقل الأداتي هو عقل أحادي، غير منفتح و متمركز على ذاته. لا يمكنه تجاوز أزمته إلا بالانفتاح على الفعل التواصلي. أما العقل التواصلي فيعتبر عقلا إنسانيا؛ يخلص العقل الأداتي من تمركزه الذاتي ومن شموليته. ويعد العقل التواصلي أكثر كفاءة وقوة وحداثة؛ و يستفيد من معطيات العقل النقدي للرأي العام. كما يساهم هذا العقل في التواصل مع غيره في الفضاء العمومي. ويبحث عن الإقناع عن طريق الحوار والنقاش والحجاج، بعيدا عن أسلوب الضغط والإكراه. ويتيح للمواطن الانخراط الإيجابي في المجتمع بفضل التواصل العقلاني النقدي والديمقراطي.
لقد استطاع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس إبداع مفاهيم جوهرية لبناء مشروعه الفكري من قبيل الفضاء العمومي، العقل الأداتي، العقل التواصلي، الفعل التواصلي، النقاش العمومي وإيتيقا التواصل، لبناء مشروعه الفكري لدراسة المجتمع المعاصر و تشخيص أعطابه و أزماته المركبة، باحثا عن الحلول و البدائل. وقد انتقد هابرماس الفكر الشمولي للأنظمة الشمولية التي تسببت في انحراف الممارسة الديمقراطية؛ وتعطيل الفكر الديمقراطي والتواصلي وسيطرة التفكير الشعبوي الشمولي الذي يؤمن بالقوة المطلقة للعقل الأحادي ومركزيته في اتخاذ القرار.
كما يرى دور المثقف العمومي في إنجاح المشروع التواصلي، لتدبير الاختلاف بالنقاش العمومي المسؤول و الديمقراطي في الإعلام العمومي و المستقل، الواقعي و الرقمي. و يعتبر دور المثقف أساسيا في العملية التواصلية كقوة اقتراحية و فكرية، لتدبير الاختلاف وتحقيق التفاهم. كما يساهم المثقف العمومي، بدوره، في مناقشة الشأن العام والقيام بمسؤولية التفكير وبناء المعرفة وتعميمها، قصد النهوض بالمجتمع وربط المعرفة والعلم بالواقع الملموس في الفضاء العمومي، والدفاع عن الخطاب العلمي وأهميته لتحقيق التطور المنشود.
2 - دور التواصل و إيتقا المناقشة في معالجة الصراعات المعاصرة
يعتبر يورغن هابرماس التواصل مع الرأي العام النقدي في الفضاء العمومي الواقعي والرقمي أمرا أساسيا في معادلة تدبير الشأن العام. و يهتم بالقضايا المشتركة للمواطنين عبر طرح الأفكار والآراء والبرامج بهدف النقاش العمومي. كما يعتمد التواصل على إيتيقا الحوار و المناقشة المبني على الحجاج والإقناع. وذلك بهدف تطوير الثقافة الديمقراطية والتواصلية في جميع الظروف، بالرغم من الاختلاف و تعدد التصورات و الآراء. بالإضافة إلى تصحيح أعطاب الممارسة الديمقراطية، لضمان مشاركة المواطن الواعي بحقوقه وواجباته وتحقيق اندماجه الاجتماعي ومحاربة التهميش والإقصاء. لذلك، فإن ظروف الأزمات تحتم الدراسة والتقييم و التقويم والتواصل المستمر مع المواطن، لوضعه في الصورة كاملة بكل شفافية ومسؤولية، لضمان انخراط الجميع في خلق وعي مجتمعي بناء، باعتماد النقاش العمومي وأخلاقيته، لتجاوز حالة الغموض وفقدان الثقة عند المواطن.
وحسب يورغن هابرماس، فإن التواصل الفعال والبناء يكون ناجحا عندما ينفتح الفاعل السياسي في المجتمع المعاصر على المواطن في الفضاء العمومي الواقعي والافتراضي، و يتم الإنصات إلى انشغالاته ومطالبه لضمان انخراطه البناء، لبلورة الحلول والبدائل لمختلف الصعوبات والمشاكل التي يصطدم بها. إن اعتماد أخلاقيات المناقشة في جميع الظروف، بالرغم من الأزمات المركبة و اللايقين، يساعد على معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بشكل متضامن. و ذلك بعدم اللجوء إلى القرارات المتسرعة والأحادية، على الرغم من الاختلاف في المقاربات والتصورات.
كما تساعد أخلاق المناقشة المبنية على الصدق والحجاج على بناء مجتمع تواصلي يرتكز على التفاهم الفعال بمشاركة المواطنين، لإنتاج الحلول والبدائل والقرارات بشكل مسؤول. تضمن انخراط ومشاركة الجميع لتنزيلها والالتزام بها، ما دامت تعبر عن مصلحة المجتمع الذي ساهم في بلورتها وإنتاجها. بهذا الشكل يتجاوز المجتمع ظروف التوتر والصراع، حين يصبح الفضاء العمومي مجالا للحوار والنقاش البناء، بأخلاق تواصلية وديمقراطية حقيقية؛ تعكس روح الصدق والمسؤولية عند الدولة و المجتمع على السواء.
في هذا السياق، يتطلب الاختلاف في الأفكار والمواقف روح الحوار والنقاش، لمعالجة قضايا الشأن العام في المجتمع بمقاربة تواصلية منفتحة. تضمن مشاركة الجميع بما في ذلك الرأي المعارض، لتجويد القرارات المتخذة حتى تكون ذات مصداقية في التنفيذ، وضمان انخراط المواطن وتفاعله الايجابي مع هذه القضايا بكل مسؤولية وروح تضامنية. تؤسس لفعل ديمقراطي وتواصلي ناجح، في عالم يعرف تراجعا ديمقراطيا. يفترض الانفتاح على المقاربة التواصلية ببعدها الديمقراطي في الفضاء العمومي، لبلورة الحلول والبدائل المقنعة، ترضي الجميع. وتحقق اندماج جميع الفئات الاجتماعية في المجتمع حتى يتحقق الاعتراف والإنصاف.
3 - أهمية المقاربة التواصلية في بناء ثقافة الوحدة و الاختلاف والإنصاف
يتحقق التواصل بالفعل التواصلي كفاعلية ودينامية مجتمعية يساهم في تطوير البعد الاجتماعي والديمقراطي والإنساني للمجتمع. وتجاوز أعطاب العقل الأداتي المتمركز على ذاته في إنتاج القرارات. و كذلك الاعتراف بالآخر وإشراكه في النقاش والإقناع. كذلك يساهم التواصل المستمر في الفضاء العمومي إلى توافق الآراء و الاقتراحات الفردية و الجماعية وتحويلها إلى فعل إيجابي وبناء. يتوخى تحقيق التفاهم حول القضايا الخلافية بمنطلقات وأهداف عقلانية. كما يعتمد التواصل على الحوار و الحجاج والمرافعة، للإقناع وتحقيق المساواة والإنصاف للحفاظ على السلم الاجتماعي والعيش المشترك والتضامن. و ذلك من أجل معالجة الأزمات التي تتطلب الإنصات لتنزيل الحلول بشكل ديمقراطي. وتحمي المواطن من المزايدات الشعبوية التي تزيد في تأزيم الوضع الاجتماعي.
في هذا السياق، يساهم التواصل بأبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية إلى تجاوز واقع الهيمنة والإكراه في المجتمع المعاصر قصد تحقيق مجتمع الحوار والنقاش على أسس عقلانية، لخلق علاقات اجتماعية سليمة قوامها الإنصاف والاعتراف و العيش المشترك. و تهدف لتوحيد الجهود لمجابهة الإقصاء والتهميش وتحديات المستقبل عبر إدماج الجميع في الدينامية الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية، للنهوض بالتعليم والصحة والشغل والسكن و الاقتصاد الوطني في إطار الوحدة الوطنية، كأولويات، تفترض تغييرا في العقلية السياسية والاجتماعية في مجتمعنا المعاصر. وتحتم استحضار الإرادة الفعلية لتصحيح أعطاب الأمس والحاضر، لفتح آفاق جديدة نحو المستقبل، بإرادة الحوار والتواصل والإنصاف، لتحقيق مجتمع الحقوق والواجبات اعتمادا على الديمقراطية ببعديها النيابي والتشاركي.
إن المقاربة التواصلية بأبعادها الاجتماعية والسياسية والثقافية تشكل مقاربة نوعية تهدف إلى إشراك الجميع في النقاش العمومي العقلاني، قصد معالجة قضايا المجتمع الحديث ومشاكله بطريقة ديمقراطية، اعتمادا على التواصل كممارسة نبيلة و بناءة. يطبعها الحوار و إيتيقا النقاش و الحجاج قصد تدبير الاختلاف، للتوصل إلى حلول وبدائل مرضية، من أجل إدماج الجميع في الدينامية الاجتماعية والسياسية للمجتمع وتحقيق الإنصاف ضمن وحدة المشترك الوطني.
المصطفى رياني، أستاذ باحث في الترجمة بالمعهد الجامعي للدراساتالإفريقية و الأورومتوسطية، الرباط