عبد الرفيع حمضي: اليوم العالمي للعزوبية …. حكاية زواج منسي 

عبد الرفيع حمضي: اليوم العالمي للعزوبية …. حكاية زواج منسي  عبد الرفيع حمضي
من غرائب هذا العالم أن يومًا عالميًا مثل اليوم العالمي للعزّاب  -الحادي عشر نونبر من كل عام ،والذي خرج من نكتة طلابية صينية — صار مرآةً لتحولات أعمق مما تخيّلها أصحاب الفكرة الأصلية.
11/11  ،هذه الارقام الأربعة المنتصبة أصبحت تؤكد  -عند حلولها كل سنة- أن  الفرد هو قيمة في ذاته، وليس مجرد مقدّمة لأسرة أو ذيلًا لمؤسسة اجتماعية.
كانت الصين الشعبية اول من احتفلت  سنة 1993به ثم  آسيا، ثم اقتربت أوروبا وأمريكا اللاتينية، وتحوّلت المناسبة بسرعة عبر شركة “علي بابا” إلى أكبر موسم للتسوّق الإلكتروني حيث حققت  أرقامًا فلكية  سنة 2019 وفاقت بكثير مبيعات “الجمعة السوداء”  black friday. العالمية .ولكن خلف كل ذلك اصبح  السؤال قائمًا وأكثر حرقةً:
ما معنى أن يعيش الإنسان وحده؟
وهل الحياة المشتركة قدر بيولوجي أم هندسة ثقافية ؟أم لا هذا ولا ذاك وهي فقط شرط اجتماعي مفروض بقوة العادة والتاريخ؟
في مجتمعات مثل كوريا واليابان، لم تعد العزوبية استثناء  بل تحوّلت إلى نمط وجود، يختار فيه الفرد أن ينسحب من ضغط الأسرة والنسل ليعيد بناء حياته حول فكرة واحدة: أن يكون هو نفسه.
أما في الغرب، فالعزوبية  انتقلت من كونها مجرد مرحلة عمرية إلى التأكيد انها خيار إرادي .ومن كونها وضعية اجتماعية فقط إلى انها حق يجب حمايته وبالتالي أصبحت هوية قائمة.
اما  بلادنا فهي تعيش هذه القصة بشكل مختلف .هنا، لا تزال مؤسسة الزواج تحمل طابع القداسة الاجتماعية. فالرجل لا يُعد  كاملًا إلا بالزواج ، والمرأة لا تُعتبر مستقرة إلا ببيت وأسرة. والجميع، من أقرب الأقربين إلى أبعد المعلقين، جميعهم يحتفظون بحقهم الطبيعي في السؤال  وبذون حرج " كاين شي زواج ، كاينة شي عروسة  كاين شي عريس   "
ومع كل ذلك هاهو وعي جديد ، يتسلل إلى المجتمع ، وعي  هادئ لا يصرخ ولا يعلن ثورة، لكنه يغير ملامح الأشياء.  ولعل اجتياح الهواتف والمقاهي  بأغنية  الفنان رشيد وتر "مي لالة منتزوجشي  باغي نبقى وحدي  فيف لا ليبرتي) لها ما يبررها .
فالأغنية  قد تبدو خفيفة، لكنها تحمل احتجاجًا وجوديًا على سلطة المجتمع أكثر مما تحمل لحنًا راقصًا.
وفي نفس الوقت لا يزال بيننا من يخطب  في العباد ويصيح : "البنت اللي جاها شي واحد خاصها تقرقرب عليه … اما القراية من بعد"
تصريح وكأن صاحبه يعتبر العزوبية سجن والزواج نافذةً صغيرة تفتح مرة واحدة، ومن لا يقفز منها يفوته الهواء.(فهامتني ولا لا )
ومن حسن الحظ ان الحياة  لا تتحرك كلها بهذه البساطة.
فقد حكى لي صديق عزيز كان  قريبًا من المفكر  محمد حميد الله الحيدرآبادي  هندي الأصل مقيم بفرنسا الف اكثر من 250 كتاب يتحدث 17 لغة اول من ترجم معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية  توفي سنة 2000 عن سن 94 سنة،  سأله صديقي يومًا:
“أستاذ، لماذا لم تتزوج إلى الآن؟”
تأمل حميد الله السؤال قليلًا، ورسم على وجهه ابتسامة رجل عاش متصالحًا مع نفسه ومع الزمن، ثم قال:
“ نسيت  j’ai oublié .”
نسي الزواج.
نسي الانشغال بما يشغل الناس.
نسي لأنه كان غارقًا في معرفة أكبر من أن يتسع لها وقتٌ واحد، أو عمرٌ واحد.
نسي لأن الرجل ربما رأى أن الحياة نفسها أوسع من أن تختزل في مؤسسة واحدة.
وهنا يصبح الزواج — والعزوبية — مجرد تفصيلة في السيرة الإنسانية، لا معيارًا لنجاح أو فشل، بل اختيارًا يتعلّق بشكل الحياة الذي يريد الإنسان أن يعيشه.
قد يتزوج البعض لأنهم يحبّون المشاركة، وقد يعزف البعض لأنهم يجدون في وحدتهم سلامهم الداخلي، وقد ينسى البعض كحميد الله لأن العمر كان يسير بسرعة المعرفة لا بسرعة المجتمع.
اما نحن فنقف اليوم في مفترق طرق:
 • بين مجتمع يريد للزواج أن يبقى ركنا من أركان الهوية،
 • وجيل يريد للهوية أن تُبنى على الحرية، لا على الخضوع،
 • وبين اقتصاد يجعل الزواج مشروعًا يحتاج إلى قدرة مالية لا يمتلكها كثيرون،
 • وبين ثقافة جديدة تهمس بأن الإنسان ليس مشروعًا ناقصًا لا يكتمل إلا بالزواج  .
هكذا يصبح اليوم العالمي للعزّاب مناسبة للتأمل لا للاحتفال، ولطرح الأسئلة بدل شراء التخفيضات:
فهل نحن مستعدون للاعتراف بأن العزوبية ليست عيبًا؟
هل نملك الشجاعة لنقول إن الزواج خيار، وليس امتحانًا في الرجولة أو الأنوثة؟
هل يمكن أن نفهم أن لكل إنسان ساعته الداخلية، وإيقاعه الخاص، ومساره الذي لا يشبه مسار أحد؟
في النهاية، ليس الزواج غاية، ولا العزوبية مصيبة.الحياة أوسع من المعادلات الجاهزة.والإنسان أكبر من القوالب التي نحاول وضعه فيها.