في كلِّ صباح، حين تكون المدينة جالسةً على حافة الضوء، تتردّد بين آخر ظلال الليل وأوّل خيوط النهار، كان "الغريب" يدير محرّك سيارة الطاكسي كما لو أنّه يفتح ستار دكّانٍ صغير من دكاكين “الحانوت السوسي”، حيث تختزن البساطة طقسها اليومي، ينهض الإنسان للبحث عن لقمة العيش.
الشوارع تتثاءب، وباعة الخبز الساخن يتهيّأون لنثر دفئهم، ونساءٌ يلففن أجسادهنّ بمعاطف الصباح، يسابقن قَدَرَهُنّ بخطواتٍ ثابتة.
أما " الغريب"، هذا هو إسمه، فكان يضيف إلى يومه إيقاعًا صغيرًا لا يراه أحد:
يحمل معه قرابة عشرين قطعةٍ صغيرة من الشوكولاطة، ملفوفة في أكياس سوداء وزرقاء، كأنّه يخبّئ فيها صدقةً من الحنان، أو وعدًا بلحظةٍ تكسو القلب بشيءٍ من العذوبة.
كان يعطي كلّ راكبٍ قطعةً… لا، ليس كلّ راكب.
يقدّمها فقط لمن يأتي وقد حمل معه جمال التفاصيل: المبلغ المضبوط ( الصرف… ...) تلك الأناقة الخفيّة التي كان يسمي أصحابها “رفاق الصباح”.
قطعة شوكولاتة بدرهم واحد… ما أقلّها!
لكنها كانت، في يومٍ يضيق بالأنفاس، أثمن من ابتسامةٍ تُهدى في غير موسمها.
وذات يوم، شاءت الحكاية أن تُخرج مشهدها المختلف.
ركبت أوّلُ زبونة. كانت أنيقة، مستعجلة، محمّلة بقلقٍ يعرفه كل من يحاول أن يبدو قويًا فيما يتداعى في الداخل طيفٌ من الارتباك.
قالت بنبرةٍ تحمل اعتذارًا صامتًا:
— «للأسف يا سيدي… لا أملك إلا ورقة من فئة مئتي درهم.»
تنفّس " الغريب" داخله، فقد سمع هذه الجملة كثيرًا، وعرف ما يعقبها:
حاسباتٌ ذهنية، بحثٌ عن حانوت قريب، وربما جولة قصيرة لتفكيك الورقة الزرقاء.
لكنه قال ببساطةٍ هادئة:
— «لا بأس يا سيدتي… سنجد حلاً.»
وقاد السيارة عبر المدينة.
خيوط الطريق تتقاطع، أبواق السيارات تتخاصم، و" الغريب" يلتقط بعينه اليسرى إشارةً من القدر، تمامًا كما ينتظر العاشق رسالة قد تغيّر نهاره.
وجاءت الإشارة بعد دقائق قليلة.
رفعت سيدة يدها، بتردّدٍ لطيف.
توقف " الغريب" ، صعدت السيدة وجلست، وما إن استقرّت حتى قالت بمرحٍ يشبه ضوءًا صغيرًا يدخل النافذة:
— «الحمد لله، معي الصرف… لا تقلق يا سيدي.»
ابتسم " الغريب" ، وأخرج قطعة شوكولاتة لامعة، وقال بدماثةٍ كان يعرف سرّها:
— «هذه لكِ يا سيدتي… مع كامل احترامي.»
ضحكت المرأة، ضحكةً خفيفة تشبه ضربة جناح حمامة.
في تلك اللحظة، اهتزّ شيء ما في صدر الراكبة الأولى.
تلك الهزّة التي يعرفها البشر حين تُقاس قيمتهم بتفصيلةٍ صغيرة لا يحتملونها.
لم تقل شيئًا، لكن عينيها كانتا مرآةً لظلٍّ صغير من الغيرة، وجرحٍ طفيف في الكرامة، ورفضٍ لأن تُدرَج في فئة “أصحاب المئتي درهم المزعجين”.
نعم، كبرياء الإنسان غريب:
قد ينكسر لأجل كلماتٍ صغيرة… أو قطعة شوكولاطة قيمتها درهم واحد.
وعندما وصلت السيارة إلى وجهة السيدة الأولى، حدثت المفاجأة.
نزلت بثبات من يعود إلى نفسه بعد شرودٍ قصير.
كان ابنها ينتظرها عند الباب، يلوّح… وفي يده ورقتين من عشرة دراهم ، كأنه جاء راكضًا ليعيد لأمه بعضًا من هيبتها.
التفتت إلى ساءق التاكسي ، وقالت بهدوءٍ فيه نبرة استعادة:
— «تفضّل… وهذا، ثمن الشوكولاتة التي تخصّني.»
قالتها دون ابتسامة، لكن بعينين تعود إليهما السكينة، كمن ربح لتوّه معركة صغيرة مع نفسه.
ناولها " الغريب" القطعة كما لو أنه يمنح وسامًا شرفيًا.
أخذتها برشاقة، ومضت بصمتٍ يحمل عبقًا من الكبرياء، وشيئًا من العطر.
أدار " الغريب" محرك السيارة مجددًا ليطوي الطريق من جديد مع زبناء إخرين.
لقد أدرك في تلك اللحظة أن العالم لا يتحرك بالوقائع الكبيرة وحدها،
بل بتفاصيل صغيرة:
كلمة، نظرة، ورقة كبيرة، أو شوكولاطة صغيرة…