تعيش قضية الصحراء اليوم مرحلة دقيقة تتقاطع فيها التحولات الإقليمية والدولية مع الديناميات الداخلية للمجتمع الصحراوي. ومع تزايد القناعة الأممية بمرتكزات “الحل السياسي الواقعي والدائم” وتثبيت المقاربة المغربية عبر قرار مجلس الأمن2797، يصبح السؤال الجوهري: كيف يمكن تهيئة البيئة الاجتماعية والنفسية التي تجعل خيار الوحدة ضمن حكم ذاتي متقدم خياراً مقنعاً وطوعياً وذا شرعية شعبية؟
الجواب لا يبدأ من الطاولة السياسية، بل من الحياة اليومية للمواطن الصحراوي؛ فمن خلال إزالة أشكال الحيف التاريخية، وجبر الضرر، واستعادة الحقوق، يمكن خلق شعور بالإنصاف والانتماء يمهّد لتسوية سياسية مقبولة من جميع الأطراف.
أولاً: لماذا المدخل الاجتماعي هو مفتاح بناء الثقة؟
الملفات الاجتماعية غير المحسومة ـ وخصوصاً المتعلقة بالهوية القانونية والوثائق، والأملاك، والإرث، والغياب القسري ـ تحمل طابعاً عاطفياً ورمزياً يتجاوز الطابع الإداري؛ فهي ملفات تتصل بالكرامة، وتعكس التجربة اليومية للصحراويين الموجودين في المخيمات أو في الخارج، وحتى في الداخل لكن محرومين من بعض الحقوق.
إن معالجة هذه الملفات قبل الوصول إلى الصيغة النهائية للحكم الذاتي شرط أساسي لبناء قناعة صادقة بأن الوحدة ليست تنازلاً، بل استعادةً للحقوق وضماناً للمستقبل.
ثانياً: رفع أشكال الحيف… إعادة الاعتبار كخطوة أولى
هناك ثلاث دوائر كبرى للحيف يجب معالجتها:
أ- الحيف القانوني – الهوية والوثائق: حيث توجد فئات كبيرة من الصحراويين فقدت وثائقها أو لم تُقيّد في الحالة المدنية، أو لم تتمكن من إنجاز بطائق التعريف أو تعذّر عليها إثبات النسب والإرث بسبب وجودها الخارج، أو دخلت بجوازات دول الإقامة إن سمح لها بالدخول!!
والمعالجة تتطلب: مساطر استثنائية وميسّرة للتسجيل في الحالة المدنية، وتشكيل لجان خاصة لتوثيق الإثباتات اعتماداً على الأعراف وشهادة اللفيف، وتمكينهم من بطاقة وطنية أو جوازات سفر؛ وتسيير وحدات متنقلة في دول الإقامة لاستقبال الملفات؛ كل ذلك قد يحقق شعورا بالاعتراف والقبول والاندماج والاحترام.
إن المقاربة الأمنية من قِبَل بعض مؤسسات الدولة ـ التي صبغت نصف قرن من النزاع ـ حرمت من فُرص التعرف على المنجزات التنموية والعمرانية، بل شكلت غُصة عندما طال المنع صلة الرحم، ومن المشاركة في المآتم والأفراح بل ومن استرجاع الحقوق؛ إذا علمنا أن حقوقا إرثية عُطلت بسبب غياب أحد أطرافها وعدم تمكنه من وثائق ثبوتية تسمح له بالاستفادة منها مباشرة أو عبر التوكيل، وهذا مس حتى الذين يعيشون في الداخل..
نعتقد أن تلك المقاربة الأمنية فقدت الآن مُسوغاتها ـ على ضعفها ـ وعليه يتعين التخلي عن المواقف الحدية في التعامل مع صحراويي المخيمات والمهجر، وإتاحة الفرصة لمن يرغب في صلة الرحم أو أخذ حقوق له عالقة..
ب- الحيف الاجتماعي – السكن، الصحة، التعليم، الشغل: فالعودة تحتاج ضمانات ملموسة من خلال برامج سكن اجتماعي مخصص للعائدين، وتسهيلات في الصحة والتغطية الاجتماعية، وإدماج سريع في التكوين المهني وتشغيل الشباب، وجبر ضرر اجتماعي للعائلات التي عاشت تشتتاً لعقود. ولا ندري سبب تعثر ما كان يستفيد منه العائدون إلى عهد قريب؟؟
ج- الحيف العقاري والإرثي – استعادة الحقوق المادية: ذلك أن أكثر الملفات حساسية هي تلك المتعلقة بـاسترجاع الأملاك، وتسوية الإرث، والتعويض عن فقدان العقارات بفعل الغياب القسري.
ويمكن معالجة هذا الحيف عبر لجان قضائية خاصة ذات صلاحيات موسعة، واعتماد الأدلة والقرائن والحجج بما فيها رسوم ووثائق الإدارة الاسبانية، وفتح آجال جديدة لإيداع المطالب؛ واعتماد مبدأ: الغياب القسري لا يسقط الحقوق.
ثالثاً: جبر الضرر… ركيزة المصالحة الاجتماعية
إن جبر الضرر ليس تعويضاً مادياً فقط، بل إعادة ثقة، لذلك ينبغي أن يستند إلى ثلاثة محاور:
أ- الاعتراف: اعتراف الدولة بأن بعض المواطنين عانوا أوضاعاً استثنائية مرتبطة بالنزاع، وأن معالجة هذه الأوضاع ليست “مِنّة” بل حق وواجب وطني.
ب- المواكبة: توفير مرافقة قانونية واجتماعية مجانية للملفات المعقّدة: تقديم الدعاوى، استخراج الوثائق، تسوية النزاعات، والدعم النفسي للعائلات.
ج- ضمانات عدم التكرار من خلال تبسيط المساطر الإدارية، رقمنة الخدمات، تعزيز آليات الوساطة، وإشراك المجتمع المدني الصحراوي.
رابعاً: كيف يصبح هذا المسار الاجتماعي مدخلاً لتعزيز الاقتناع بخيار الحكم الذاتي؟
أ- تحويل الوحدة إلى مكسب لا إلى تنازل: عندما يلمس المواطن أن وثائقه سُويت، وحقوقه عادت، وكرامته مصونة، وأن الدولة تنصت لهمومه؛ فإن الوحدة تصبح استمرارية طبيعية لعملية استعادة الحقوق، وليست خياراً مفروضاً أو مشوباً بالمخاوف.
ب - حفظ ماء الوجه لدى جميع الأطراف : الحكم الذاتي يقدم معادلة “لا غالب ولا مغلوب”، لكن نجاحها يحتاج إلى مقاربة إنسانية تحفظ كرامة العائد، وضمانات تحترم الخصوصية، ومشاركة أبناء الإقليم في المؤسسات المستقبلية منذ الآن عبر آليات استشارية.
ج - خلق مناخ نفسي يُسهّل القبول السياسي: حين تُحل الملفات الاجتماعية، تنخفض التوترات، وتتراجع سرديات القطيعة، وينشأ انطباع بأن المستقبل في إطار الحكم الذاتي داخل البلد الموحد مضمون الحقوق وأكثر استقراراً من حالة اللجوء.
د - فتح قنوات ثقة متبادلة قبل المفاوضات النهائية: المبادرات الاجتماعية تشكل “بوابة آمنة” لبناء الثقة، بعيدة عن التشنج السياسي، وقادرة على إشراك مَن لا يثقون بالمفاوضات الرسمية.
خامساً: ملامح حكم ذاتي قادر على تعزيز الوحدة وحفظ ماء الوجه
أ - احترام الخصوصية: من خلال صيانة الأعراف الاجتماعية المنبثقة من القيم البناءة، ودعم الثقافة والتراث الحساني.
ب - تمكين أبناء الإقليم في تدبير شؤونهم: ببرلمان جهوي واسع الاختصاص، وحكومة جهوية، ومحاكم جهوية في قضايا القرب والأحوال الشخصية، وتدبير محلي للثقافة والتنمية.
ج - ضمانات صلبة لعدم التمييز: المساواة في الحقوق، وحرية التنقل والعودة، ونظام خاص لاسترجاع الأملاك.
د - الربط بين التنمية والعدالة الاجتماعية : الحكم الذاتي الناجح لا يقوم فقط على المؤسسات، بل على اقتصاد جهوي قوي، فرص شغل واسعة للشباب، وتوزيع عادل لعائدات الثروات.
سادساً: من المواقف الحدية إلى منطق الحلول… كيف ينتهي التردد؟
عندما يشعر الصحراوي بأن الدولة تعطيه قبل أن تطلب منه، وحقوقه تُسترجع قبل الحل السياسي، وكرامته مصونة في العودة، ومستقبله مضمون داخل الوطن؛ فإن سرديات الانفصال تتراجع تدريجياً، ويتحول مشروع الحكم الذاتي إلى خيار عقلاني ووجداني في آن واحد.
وأخيرا: الحكم الذاتي يعتبر تتويجا لمسار اجتماعي عادل لا بدايةً له، وبناء الثقة لا ينشأ من الوثائق الدستورية فقط، بل من إزالة الحيف، وجبر الضرر، وإعادة الاعتبار، وعندما يلمس المواطن الصحراوي أن الدولة تبادر إلى إنصافه دون انتظار الحل السياسي، فإن الوحدة تصبح قراراً نابعاً من القناعة لا من الإكراه.
إن تقديم نموذج حكم ذاتي يحفظ ماء الوجه، ويراعي الخصوصيات، ويضمن الكرامة والحقوق، ليس فقط تصوراً سياسياً، بل مشروع مصالحة تاريخية يعيد وصل ما انقطع، ويرسم مستقبلاً مشتركاً قائماً على العدالة، والانتماء، والاحترام المتبادل.
والله المستعان.