محمد عزيز الوكيلي: الصدفة تستحق أحياناً الوقوف عندها للاعتبار!!

محمد عزيز الوكيلي: الصدفة تستحق أحياناً الوقوف عندها للاعتبار!! محمد عزيز الوكيلي
أحياناً تأتيك الصدفة بأخبار، أو معطيات، تجعلك تترك ما بين يديك وتنغمس في تأمّل مظاهر وخلفيات ما جاءت به إليك، وإلى غيرك بكل تأكيد، وكأنك أمام حدث أو ظاهرة لم تكن تدور ببالك، ولا ببال أحد، بينما هي في الواقع قائمة من زمن ليس بالهَيِّن!!
 
يتعلق الأمر في هذه الصبيحة من يوم الجمعة بمسألتَيْن اثنتين: 
الأولى: جاءت على لسان "الصحافي العائد"، توفيق بوعشرين، الذي نقل إلينا بطريقته الاحترافية المشوّقة، ومِيزتُه هذه لا يُنكرها أحد، خبراً كان مدفوناً عن لقاء جرى منذ سنوات بين المغفور له وزير الخارجية المغربي الأسبق والإعلامي والمؤثِّر قيد حياته، "محمد بنعيسى"، ووزير خارجية الجزائر ثم رئيس حكومتها لاحقاً، "عبد العزيز بلخادم".
 
هذا اللقاء، كما أخبر به صاحبُنا، كان ذا طابع شخصيّ، حيث جرى في بيت وزير الخارجية المغربي بنعيسى، أثناء مأدبة عشاء دعا إليها نظيرَه الجزائري بلخادم، ودار فيها نقاش حول العلاقات المتأزمة بين البلدين الشقيقين والجارين... 
 
ومِن بين ما دار  في تلك الأمسية الخاصة، أن "بنعيسى" اقترح على ضيفه "بلخادم" أن يُدلِيَ كلٌّ منهما بصراحة الأصدقاء والإخوة وبعيداً عن رسميات السياسة والديبلوماسيا، بما يراه حول ما يطلبه كل من المغاربة والجزائريين من بعضهم البعض. فوافق الوزير بلخادم على أساس أن يكون البدء لمُضيفه ما دام هو صاحب الفكرة.
 
من جانبه، قال بنعيسى إن المغاربة لا يطلبون من إخوانهم الجزائريين سوى مبادرات ثلاث: 
1- فتح الحدود والسماح بالانسياب الطبيعي للأشخاص والأموال والمصالح والاستثمارات المتبادلة؛
2- ترك المشكل الصحراوي للأمم المتحدة والتعامل بعيدا عن هذا الملف كما كان الأمر في فترات سابقة؛
3- العمل، بجِد، على دعم مجالات التعاون والتكامل الاقتصادي والتنموي على طريق تحقيق حلم الاتحاد المغاربي.
فلما جاء الدور على الوزير الجزائري بلخادم للتعبير عما تريده الجزائر من جارها المغربي، كان كلامه مختصَراً وقاطعاً  حيث لم يَزِد على ثلاث كلمات: "والله لا أعرف"!!!
 
تصوروا وزير خارجية "دولة قارة" لا يعرف ما تريده دولته من جارها المغربي، رغم إبداء هذا الجار حقيقةَ مَطالبه البسيطة والواضحة، ورغم أن اللقاء كان شخصيا، والمحادثات التي دارت فيه شخصية، بلا رسميات ولا كاميرات أو أجهزة تسجيل صوتي أو غيره... ورغم كل ذلك، لم يستطع الوزير الجزائري أن ينبس ببنتِ شَفَة!!
 
تأمّلوا معي إلى أي حدٍّ يبلغ الرعب الجاثم على صدور المسؤولين الجزائريين، والآخذ بخناقهم، قمّتَه وخطورتَه، حتى عندما يكونون بعيدين عن أنظار وآذان حُكامهم... أم يا تُرى، أن الأمر "يتعلق بعقدة نفسية متأصّلة ومتجذّرة في اللاوعي الجمعي هناك، تجعل المُحاور الجزائري مهما كان موقعُه من المسؤولية يرتعد هلعاً بمجرد مطالبته بالتعبير عن رأيه الشخصي، ولو داخل نطاق تَواصُلي إنساني لا علاقة له بالمواقف الرسمية لدولته وحكومته؟!!
 
المسألة الثانية: حملها إلينا المثقف والمفكر والوزير الجزائري الأسبق، "نور الدين بوكروح"، الذي تحدث معلِّقاً على قرار مجلس الأمن 2797، الداعم لمشروع الحكم الذاتي المغربي، فوصف مواقف الحكام الجزائريين "بغياب الذكاء والجرأة والاحترافية"، ووصف المغاربة بالحضور اللافت لهذه الصفات الثلاث، غير أنه عندما تطرق للإنجاز المغربي، الذي قال إنه انطلق بالمسيرة الخضراء، وصف هذه الأخيرة بتعبيرٍ غريب، من قَبيل "الغزو السلمي"، "أو الغزو الناعم"، وهو ما ينزع عن المسيرة طابعها النضالي السلمي، من حيث كونُها عملاً تحريرياً مُسالما ً لم تُرَقْ فيه أدنى قطرة دم، وكون الجزائر، نظاماً وشعباً، لم تكن معنية بذلك الإنجاز المغربي التاريخي والفريد.
 
هكذا، اعتبر ذلك الوزير الجزائري الأسبق مسيرتَنا الخضراء السلمية والمٌسالِمة محضَ "عمليةِ غزو"، فيا له من تَحامُل، ويا لها من بًجاحة!! 
 
لقد نسي "بوكروح" أن رئيس دولته المرحوم "هواري بومدين" خطب في دورة قمة الجامعة العربية بالرباط، سنة 1974، قُبَيْل المسيرة ببضعة أشهر، مُعرِباً أمام جميع القادة العرب، عن "استعداده لمد أخيه الملك الحسن الثاني بما يحتاج إليه من الدعم العسكري ومن كتائب الجيش الوطني الشعبي الجزائري بمجرد اعتزامه استرجاع صحرائه بالقوة"، وأكد أنه يستطيع أن يفعل ذلك في ظرف ساعتين لا أكثر، وكرر بعد ذلك مباشرةً أنه "ليست هناك أدنى مطامع لبلاده في الصحراء المغربية". هكذا قال بعظمة لسانه بشهادة كل القادة العرب وكل المراقبين الأجانب والدوليين الذين كانوا يتتبعون ماجريات ذلك المؤتمر!! 
 
هذا الخطاب، بالمناسبة، تم توثيقه بالصوت والصورة، كما تم نقل نسخ منه محمّلة في أشرطة تلفزيونية مصورة من فئتَيْ 19 و35 ملم. إلى معظم العواصم العالمية، وفي طليعتها عواصم الدول العظمى، وغيرها من الدول المؤثّرة على مستوى القارات الخمس... 
 
تم ذلك بالفعل، حوالي الفترة 1977/1976، بعد أن افتضح تورط النظام الجزائري في معارك أمغالة الأولى والثانية وما تلاها من اعتداءات ميليشيا الجزائر الجنوبية، المدعومة آنذاك بضباط الجيش الجزائري، وبجنود مغامرين وخبراء عسكريين من كل من ليبيا ومصر وكوبا وفنزويلا... وغيرها من فُتات الحرب الباردة!!
 
العبرة من هاتين المسألتين، أن النظام الجزائري، بالفعل، لا يعرف بوضوح وبالتحديد ما يريده منا نحن المغاربة، رغم أننا واضحون معه في كل ما عبّرنا عنه من مطامح لا تزيد عن: فتح الحدود؛ وإعادة العلاقات إلى سابق عهدها وإلى ما كانت عليه قبل المسيرة، وحتى إلى ما كانت عليه بعد المسيرة في عهد الشاذلي بنجديد مثلاً، بل  وفي فترات من العهد "البوتفليقي"، الذي كانت المبادلات فيه جارية بين البلدين على مختلف الأصعدة، بينما كان ملف النزاع المفتعل متروك  للبحث والبتّ على مستوى المنتظَم الدولي... ثم المرور رأساً إلى تقعيد وترسيخ مشروع الوحدة المغاربية!!
 
العبرة من ذلك أيضاً، أننا نتعامل مع جار لا يعرف سوى شيء واحد يشكّل بالنسبة له حقيقة فاضحة، وهي الكد والاجتهاد من أجل وضع الحصا في الحذاء المغربي، والعِصِيّ في عجلات الاستقرار المغربي، والحيلولة دون تقدم المغرب تنموياً واقتصادياً، عن طريق جعلنا بصورة مستديمة أمام هاجس الحرب، وقد تفننت الجزائر في تعطيل جهود التنمية في بلادنا بما اضطرتنا تلك الجارةُ إليه من التسارع والتدافع معها نحو التسلح، ونحو الرفع المتتالي من الميزانيات العسكرية من جهة، والسير بخطا بطيئة باتجاه تنمية كافة أصقاع البلاد من طنجة إلى الغويرة من جهة ثانية!!
 
لكن، بالرغم من كل ذلك، سار المغرب بالجرأة والذكاء، اللذيْن ذكرهما مشكوراً الوزير الجزائري الأسبق "نور الدين بوكروح"، وبسرعتين متوازيتين تكادان تكونان متعادلتين في المجالين معاً، العسكري والإنمائي... والواقع الملموس والمعاش يُفْحِم ويُخرِص كل من يقولون غير ذلك!!
 
إنه المغرب الجديد يا حضرات، المغرب الذي لا مكان فيه للمستحيل، لأن "المستحيل ليس مغربياً"، كما نقول في أدبياتنا منذ سنين!!!
 
محمد عزيز الوكيلي/ إطار تربوي متقاعد

محمد عزيز الوكيلي/ إطار تربوي متقاعد