لم يُخلق البرلمان للفرجة كيفما كان نوعها، ولا لإنتاج الطرائف والهزليات.
وُجد ليُمارس التشريع والرقابة والدفاع عن قضايا المواطنين الحيوية.
لكنّ ما نراه اليوم داخل القبة التشريعية يُوحي بأن وجود بعض البرلمانيين أصبح مقترنا بتجارب التمييع والأداء الفكاهي الحامض بحثا عن «البوز»و التصفيق والإعجاب، علما أن المؤسسة التشريعية ليست فضاء للاستعراض لعضلات الكلام و«ضريب الطر» و«التحراميات»؛ البرلمان عمود ديمقراطي من أعمدة الدولة الحديثة، الضامنة لتوازن السلطات ومساءلة الحكومة وصون الإرادة الشعبية.
وحين تتحول جلساته إلى مادة للتندر على وسائل التواصل الاجتماعي، فذلك يعني أن الخلل تغلل في الثقافة السياسية والبيئة الانتخابية التي سمحت لهؤلاء بالوصول إليه.
فالجلسة البرلمانية التي يُفترض أن تكون لحظة جِدٍّ وصرامة، صارت في كثير من الأحيان لحظة نزق جماعية، يخرج منها المواطن بانطباع أن السياسة لعبة الجهلة والفاسدين ونزلاء السجون وتجار المخدرات و «الجيفة وما عاف السبع»، وأن الفاعلين فيها أقرب إلى المهرجين منهم إلى الممثلين الحقيقيين للأمة.
إن الصورة التي يقدمها «برلمانيو الميوعة» تسيء إلى الدولة نفسها، لأنها تفرغ المؤسسة التشريعية من معناها، وتحولها إلى مضمار سباق للبحث عن الأضواء خارج التعاقد الذي تطرحه التمثيلية البرلمانية.
وهذا يعود إلى مجموعة من العوامل:
أولا: في ظل ضعف التأطير الحزبي، تحول الاهتمام على نحو كلي إلى البحث «الرأسمال الانتخابي»، إذ صار المعيار الأساسي في اختيار المرشحين هو مدى قدرتهم على ضمان الأصوات، لا على إنتاج الأفكار. وهذا ما يفسر كيف تحوّلت بعض الدوائر الانتخابية إلى مزارع انتخابية شخصية، وكيف أصبحت المقاعد البرلمانية تُمنح كما تُمنح الامتيازات، لا كما تُنتزع بالجدارة.
ثانيا: بعض الأحزاب تخلّت عن فكرة «النخبة السياسية» التي تُفرزها الكفاءة والتجربة والفكر والتدرج في المواقع والمسؤوليات الحزبية، واستبدلتها بمعيار «القدرة على الحشد» و«الشعبية العابرة» و«مول الشكارة» القادر على شراء التزكية وتمويل الحملة الانتخابية وشراء الذمم والأصوات. إذ أصبح الطريق إلى البرلمان خاضعا لحسابات انتخابية ضيقة وولاءات شخصية وانتفاعية. كما أصبحنا أمام قاعدة «مرشح يبحث عن حزب» بدل قاعدة «مناضل يترشح». وهكذا ضاعت فكرة «الحزب السياسي» باعتباره حاملاً لمشروع مجتمعي، وتحول إلى مجرد واجهة قانونية للوصول إلى المؤسسات.
ثالثا: ترك الحبل على الغارب أمام هؤلاء الوافدين الجاهلين ليتغلغلوا في المشهد السياسي بلا حسيب ولا رقيب .وهنا يأتي دور الدولة التي استقالت من وظيفة تنقية المسارب التي تسمح بتنقية البرلمان من هؤلاء وغربلة البرلمانيين وتحسين نسلهم.
رابعا: الجهل بلغة التواصل السياسي، إذ أن هؤلاء «البرلمانيين الفكاهيين» يخلطون بين التواصل الشعبي والميوعة السياسية، ويظنون أن الظهور بمظهر القرب من الناس يعني بالضرورة استعمال قاموس الشارع، أو توظيف الرموز الشعبية لتبرير غياب الرؤية. في حين أن جوهر السياسة هو القدرة على صياغة خطابٍ يفهم الناس دون أن يُهين ذكاءهم، ودون أن يثير سخريتهم أو امتعاضهم أو تقززهم، ودون أن يفسد علاقتهم بالمؤسسة التشريعية.
خامسا: التطبيع الإعلامي مع الابتذال، إذ يلاحظ أن طرائف الميوعة البرلمانية تحولت إلى مصدر إلهام إعلامي واسع، مما يعكس أزمة عميقة في مفهوم الإعلام، مثلما يعكس انحرافا في القيم السياسية لدى جزء كبير من النخبة، إذ لم تعد الغاية هي الإقناع العلمي أو الفكري، بل دغدغة المشاعر وإثارة الضحك ونشر التفاهة على أوسع نطاق، ما دام هذا الإعلام يتعامل مع المواطن بوصفه مستهلكا لصور عابرة سريعة التأثير.
سادسا: الجمهور نفسه بدأ يتماهى مع «الفرجة السياسية»، مما يؤدي إلى نتيجة واحدة يشترك فيها المرسل والمتلقي: التبخيس وتقديم العمل السياسي كمساحة للتسلية التافهة، ومجال حيوي للحموضة والفساد وإهدار الفرص.
لا يقتصر خطر هذه الظاهرة على تشويه صورة المؤسسة التشريعية. فحين يرى المواطن أن من يُفترض أن يمثله يتحدث بسطحية وابتذال وجهل وعدم اكتراث، ويُسيء إلى مقام المؤسسة، فإنه يشعر بأن السياسة لم تعد شأنا جديا وساميا، وأن المشاركة لا جدوى منها، مما يدخل البلاد بكاملها في دائرة مغلقة لا يمكن كسرها إلا بإصلاح جذري يبدأ من الأحزاب نفسها ومن وزارة الداخلية والسلطة القضائية الوصيتان على العملية الانتخابية وعلى الرقابة على المسلسل السياسي، كما يشمل الإعلام الذي يُفضّل المشهد الحامض على الخطاب الرصين، فضلا عن ضرورة العمل، في مؤسسات التنشئة الاجتماعية، على إقرار تربية الجمهور على النقاش التشريعي الجاد.
يحتاج المغرب اليوم إلى إعادة الاعتبار لفكرة «التمثيلية السياسية» من أساسها. إذ لا يكفي أن نطلق النار على «الميوعة البرلمانية» دون إجراءات حقيقية تعيد النظر في كيفية وصولهم إلى البرلمان. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من لحظة الاختيار، وأيضا من طريقة إعداد اللوائح الانتخابية، ومن المعايير التي تعتمدها الأحزاب في منح التزكيات، ومن شروط الترشح الذي ينبغي أن يُربط بالكفاءة السياسية والتأطير المسبق في قضايا التشريع والرقابة والمرافعة، ومن فحص الملفات من طرف وزارة الداخلية والقضاء للغربلة وإبعاد المشبوهين، وإلا فإننا سنظل أمام هذه النماذج التافهة التي لا تملك أي قدرة على مواكبة التحولات الكبرى التي يعيشها المغرب على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية.
إذ ليس من المعقول أن ينجح بلد في بناء البنيات التحتية الضخمة وتحديث مؤسساته الأمنية والعسكرية وأوراشه الكبرى المهيكلة للتراب الوطني، بينما يتعثر في إنتاج نخب سياسية في مستوى هذه التحولات.
ما نحتاجه اليوم هو استعادة الهيبة المفقودة للمؤسسات، ورد الاعتبار للعمل البرلماني والحزبي حيث تُصنع القرارات وتُبنى الرؤى.
لا نحتاج إلى مؤسسات تبث فيها السكيتشات المبتذلة والقفشات الهزلية الحامضة على المباشر.
إننا بالفعل أمام اختبار حقيقي: هل يستطيع المغرب أن يفرز نخبا جديدة قادرة على كسر منطق «البيصارة السياسية» واستعادة معنى السياسة، أم أننا سنواصل التصفيق للمشهد ذاته وننتظر نتيجة مختلفة؟