نور محمد رضا: الجزائر لم تستوعب بعدُ التحوّل الجيوسياسي الذي جعل المغرب فاعلاً مركزياً في إفريقيا وشريكاً موثوقاً للقوى الكبرى

نور محمد رضا: الجزائر لم تستوعب بعدُ التحوّل الجيوسياسي الذي جعل المغرب فاعلاً مركزياً في إفريقيا وشريكاً موثوقاً للقوى الكبرى نور محمد رضا، أستاذ القانون العام بجامعة محمد بن عبد الله بفاس ورئيس المركز المغربي للدراسات الإفريقية والتنمية المستدامة
أصدر‭ ‬نور‭ ‬محمد‭ ‬رضا،‭ ‬أستاذ‭ ‬القانون‭ ‬العام‭ ‬بجامعة‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بفاس‭ ‬ورئيس‭ ‬المركز‭ ‬المغربي‭ ‬للدراسات‭ ‬الإفريقية‭ ‬والتنمية‭ ‬المستدامة‭ ‬مؤلفا‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ : " ‬عندما‭ ‬يهب‭ ‬الريح‭ ‬فوق‭ ‬الصحراء‭ ‬تطرق‭ ‬فيه‭ ‬الى‭ ‬التطورا‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬قضية‭ ‬الصحراء‭ ‬المغربية‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬اعتراف‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬بمغربية‭ ‬الصحراء‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬المسار‭ ‬الذي‭ ‬توج‭ ‬بصدور‭ ‬القرار‭ ‬الأممي‭ ‬2797‭ ‬الذي‭ ‬اعتبر‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬الحل‭ ‬الوحيد‭ ‬والمستدام‭ ‬لهذا‭ ‬النزاع‭ ‬المفتعل،‭ ‬كما‭ ‬تطرق‭ ‬الى‭ ‬التعاطي‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬للجزائر‭ ‬وما‭ ‬اتسم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬عرقلة‭ ‬منهجية‭ ‬لجهود‭ ‬تسوية‭ ‬هذا‭ ‬النزاع‭ ‬وما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬تداعيات‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬ببعث‭ ‬الاتحاد‭ ‬المغاربي‭ . "‬الوطن‭ ‬الآن‭" ‬التقت‭ ‬الباحث‭ ‬نور‭ ‬محمد‭ ‬رضا‭ ‬وأجرت‭ ‬معه‭ ‬الحوار‭ ‬التالي‭ :‬

 
في‭ ‬أي‭ ‬سياق‭ ‬يأتي‭ ‬إصدار‭ ‬كتابك‭ ‬بعنوان: "عندما‭ ‬يهب‭ ‬الريح‭ ‬فوق‭ ‬الصحراء"‭ ‬والذي‭ ‬يناقش‭ ‬استراتيجية‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الجزائر‭ ‬والقائمة‭ ‬على‭ ‬الثبات‭ ‬لا‭ ‬المواجهة؟
يأتي‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬سياقٍ‭ ‬إقليميٍّ‭ ‬معقّد،‭ ‬حيث‭ ‬تحوّلت‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المغرب‭ ‬والجزائر‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ‬وحدة‭ ‬مغاربية‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬انسدادٍ‭ ‬مزمن‭. ‬فبعد‭ ‬عقودٍ‭ ‬من‭ ‬الخطاب‭ ‬المتشنّج‭ ‬من‭ ‬الجانب‭ ‬الجزائري،‭ ‬اختار‭ ‬المغرب‭ ‬طريقاً‭ ‬مغايراً:‭ ‬طريق‭ ‬الثبات،‭ ‬والبناء،‭ ‬والتراكم‭ ‬الهادئ‭.‬
لقد‭ ‬لمسنا‭ ‬في‭ ‬مركزنا‭ ‬«المركز‭ ‬المغربي‭ ‬للدراسات‭ ‬الإفريقية‭ ‬والتنمية‭ ‬المستدامة»،‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬المؤشرات‭ ‬الإيجابية‭ ‬التي‭ ‬أكّدت‭ ‬لنا‭ ‬أنّ‭ ‬قضية‭ ‬الصحراء‭ ‬المغربية‭ ‬تتّجه‭ ‬نحو‭ ‬حلٍّ‭ ‬نهائي‭ ‬في‭ ‬أفقٍ‭ ‬قريب،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬الاعترافات‭ ‬المتزايدة‭ ‬للقوى‭ ‬الكبرى‭ ‬والدول‭ ‬المؤثرة‭ ‬بسيادة‭ ‬المغرب‭ ‬على‭ ‬أقاليمه‭ ‬الجنوبية‭.‬
شخصياً،‭ ‬كنتُ‭ ‬قد‭ ‬نشرتُ‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬والدراسات‭ ‬التي‭ ‬دعمت‭ ‬هذا‭ ‬التوجّه،‭ ‬لأنّ‭ ‬المعطيات‭ ‬الميدانية‭ ‬والديبلوماسية‭ ‬كانت‭ ‬كلّها‭ ‬تؤكّد‭ ‬أنّ‭ ‬الريح‭ ‬بدأت‭ ‬فعلاً‭ ‬تهبّ‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الصحيح‭.‬
إنه‭ ‬كتاب‭ ‬وُلد‭ ‬من‭ ‬يقينٍ‭ ‬علميٍّ‭ ‬بأنّ‭ ‬المغرب‭ ‬لا‭ ‬يواجه‭ ‬بالعنف،‭ ‬بل‭ ‬يبني‭ ‬بالتراكم‭.‬
 
أشرت‭ ‬في‭ ‬كتابك‭ ‬أن‭ ‬المغرب‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬يواجه‭ ‬"استراتيجية‭ ‬عرقلة‭ ‬ممنهجة"‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الجزائر،‭ ‬حيث‭ ‬منطق‭ ‬الحظر‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬يحل‭ ‬محل‭ ‬منطق‭ ‬الحوار،‭ ‬فهل‭ ‬من‭ ‬توضيحات‭ ‬بهذا‭ ‬الخصوص؟
العرقلة‭ ‬الممنهجة‭ ‬ليست‭ ‬مجرّد‭ ‬ردود‭ ‬أفعال‭ ‬سياسية‭ ‬ظرفية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬نهج‭ ‬قائم‭ ‬بذاته‭ ‬تتبنّاه‭ ‬الجزائر‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭. ‬إنّها‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تعطيل‭ ‬كلّ‭ ‬دينامية‭ ‬مغربية‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تُعيد‭ ‬التوازن‭ ‬إلى‭ ‬المنطقة‭ ‬أو‭ ‬تُظهر‭ ‬تفوّق‭ ‬النموذج‭ ‬المغربي‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬والاستقرار‭.‬
فمنذ‭ ‬انسداد‭ ‬أفق‭ ‬اتحاد‭ ‬المغرب‭ ‬العربي،‭ ‬تبنّت‭ ‬الجزائر‭ ‬سياسة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬ثلاث‭ ‬مستويات:
1- ‬العرقلة‭ ‬المؤسساتية‭ ‬عبر‭ ‬تجميد‭ ‬أجهزة‭ ‬الاتحاد‭ ‬وتعطيل‭ ‬أيّ‭ ‬مبادرة‭ ‬للتكامل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬أو‭ ‬الأمني‭.‬
2- ‭‬العرقلة‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تدويل‭ ‬ملف‭ ‬الصحراء‭ ‬وتغذية‭ ‬نزاعٍ‭ ‬مصطنع‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬الأممية‭ ‬والإفريقية،‭ ‬بما‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬عودة‭ ‬التوازن‭ ‬الطبيعي‭ ‬للعلاقات‭ ‬المغاربية‭.‬
3- ‬العرقلة‭ ‬الرمزية‭ ‬والإعلامية‭ ‬التي‭ ‬تُعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬خطاب‭ ‬العداء‭ ‬وتُغذّي‭ ‬صورة‭ ‬عدوانية‭ ‬تجاه‭ ‬المغرب‭ ‬داخل‭ ‬الوعي‭ ‬الجزائري‭.‬
هذه‭ ‬ليست‭ ‬صدفة،‭ ‬بل‭ ‬خيارٌ‭ ‬استراتيجي‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬خوفٍ‭ ‬عميق‭ ‬من‭ ‬التحوّل؛‭ ‬لأنّ‭ ‬الجزائر،‭ ‬كما‭ ‬أوضحت‭ ‬في‭ ‬الكتاب،‭ ‬لم‭ ‬تستوعب‭ ‬بعدُ‭ ‬التحوّل‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬المغرب‭ ‬فاعلاً‭ ‬مركزياً‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬وشريكاً‭ ‬موثوقاً‭ ‬للقوى‭ ‬الكبرى‭.‬
إنّها‭ ‬سياسة‭ ‬«الجمود‭ ‬المتحرك»:‭ ‬تتحرك‭ ‬لتُعطّل،‭ ‬وتُجادل‭ ‬لتُبقي‭ ‬الأمور‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭.‬
 
‬تطرقت‭ ‬في‭ ‬مؤلفك‭ ‬الى‭ ‬وجود‭ ‬دبلوماسيتين‭ ‬متقابلتين:‭ ‬دبلوماسية‭ ‬الواقع‭  ‬من‭ ‬جانب‭ ‬المغرب‭ ‬ودبلوماسية‭ ‬الفراغ‭ ‬أو‭ ‬الحواجز‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الجزائر،‭ ‬فعلى‭ ‬ماذا‭ ‬تستند‭ ‬في‭ ‬تبني‭ ‬هذا‭ ‬الطرح؟
صحيح‭ ‬أنّنا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬دولتين،‭ ‬لكنّ‭ ‬المقارنة‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬الحدود‭ ‬السياسية،‭ ‬بل‭ ‬تمتدّ‭ ‬إلى‭ ‬الفلسفة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬تصوّر‭ ‬كلّ‭ ‬منهما‭ ‬لوظيفتها‭ ‬الإقليمية‭ ‬والدولية‭.‬
فـدبلوماسية‭ ‬المغرب‭ ‬هي‭ ‬دبلوماسية‭ ‬الواقع‭ ‬لأنها‭ ‬تتأسّس‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬الميداني‭ ‬والمراكمة‭ ‬الهادئة،‭ ‬وعلى‭ ‬قدرة‭ ‬المملكة‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬المواقف‭ ‬السياسية‭ ‬إلى‭ ‬إنجازات‭ ‬ملموسة:‭ ‬من‭ ‬مشاريع‭ ‬تنموية‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬الأقاليم‭ ‬الجنوبية،‭ ‬إلى‭ ‬شراكات‭ ‬إفريقية‭ ‬متنوّعة،‭ ‬إلى‭ ‬انخراط‭ ‬فعلي‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬الأمن‭ ‬والتنمية‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الإقليمي‭ ‬والدولي‭.‬
إنها‭ ‬دبلوماسية‭ ‬لا‭ ‬ترفع‭ ‬الشعارات‭ ‬بل‭ ‬تبني‭ ‬الوقائع،‭ ‬لا‭ ‬تُعلن‭ ‬النوايا‭ ‬بل‭ ‬تُنتج‭ ‬النتائج‭.‬
في‭ ‬المقابل،‭ ‬تقوم‭ ‬دبلوماسية‭ ‬الجزائر‭ ‬على‭ ‬خطابٍ‭ ‬متضخّمٍ‭ ‬لا‭ ‬يوازيه‭ ‬فعلٌ‭ ‬مؤسّسيٌّ‭ ‬أو‭ ‬حضورٌ‭ ‬ميدانيّ‭.‬
إنها‭ ‬دبلوماسية‭ ‬الحواجز‭ ‬لأنّها‭ ‬تُشيّد‭ ‬جدراناً‭ ‬لغوية‭ ‬ونفسية‭ ‬بين‭ ‬الشعوب،‭ ‬وتعتمد‭ ‬منطق‭ ‬«اللاّعلاقة»‭  ‬كوسيلة‭ ‬لإدارة‭ ‬العلاقة‭.‬
تغذّيها‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬وتُكبّلها‭ ‬بنية‭ ‬نظامٍ‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬نجاح‭ ‬الجار‭ ‬تهديداً‭ ‬لا‭ ‬فرصة‭.‬
لقد‭ ‬بيّنتُ‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬التباين‭ ‬يعكس‭ ‬انتقال‭ ‬المغرب‭ ‬من‭ ‬الشرعية‭ ‬الثورية‭ ‬إلى‭ ‬الشرعية‭ ‬الإنجازية،‭ ‬بينما‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬الجزائر‭ ‬أسيرة‭ ‬الذاكرة‭ ‬الثورية‭ ‬التي‭ ‬فقدت‭ ‬صلاحيتها‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬جديد‭ ‬تحكمه‭ ‬مفاهيم‭ ‬التنمية‭ ‬والنجاعة‭ ‬والواقعية‭.‬
بجملة‭ ‬واحدة:‭ ‬المغرب‭ ‬يتحدث‭ ‬بلغة‭ ‬الأفعال،‭ ‬والجزائر‭ ‬تردّ‭ ‬بلغة‭ ‬الموانع‭.‬
 
ماذا‭ ‬تجسد‭ ‬قضية‭ ‬الصحراء‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمغرب‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬الجزائر‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تدير‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الصخب‭ ‬الدبلوماسي؟
قضية‭ ‬الصحراء‭ ‬ليست‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمغرب‭ ‬نزاعاً‭ ‬إقليمياً،‭ ‬بل‭ ‬امتدادٌ‭ ‬طبيعي‭ ‬لكيانه‭ ‬التاريخي‭ ‬والسياسي‭.‬
إنّها‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬سيرورة‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬المغربية‭ ‬الممتدّة‭ ‬عبر‭ ‬القرون،‭ ‬حيث‭ ‬تتجسّد‭ ‬وحدة‭ ‬الأرض‭ ‬والعرش‭ ‬والشعب‭ ‬في‭ ‬مشروعٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التنمية‭ ‬والشرعية‭ ‬التاريخية‭.‬
المغرب‭ ‬لا‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬الصحراء‭ ‬كملفّ،‭ ‬بل‭ ‬يحتضنها‭ ‬كقدرٍ‭ ‬وطنيٍّ‭ ‬وجغرافيٍّ‭ ‬وروحيٍّ‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬واحد‭.‬
أمّا‭ ‬بالنسبة‭ ‬للجزائر،‭ ‬فالقضية‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬لتثبيت‭ ‬سرديّة‭ ‬سياسية‭ ‬داخلية‭ ‬وإلى‭ ‬وسيلة‭ ‬لتغذية‭ ‬شعورٍ‭ ‬جماعيٍّ‭ ‬زائف‭ ‬بالخطر‭ ‬الخارجي‭.‬
لقد‭ ‬استُخدمت‭ ‬الصحراء‭ ‬لتبرير‭ ‬انسدادٍ‭ ‬سياسيٍّ‭ ‬مزمن،‭ ‬ولتحويل‭ ‬انتباه‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬التنموية‭ ‬الحقيقية‭.‬
وهكذا،‭ ‬نرى‭ ‬أنّ‭ ‬الموقفين‭ ‬يعكسان‭ ‬اختلافاً‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬الدولة:
المغرب‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الصحراء‭ ‬بمنطق‭ ‬البناء‭ ‬والاندماج،
في‭ ‬حين‭ ‬تتعامل‭ ‬الجزائر‭ ‬معها‭ ‬بمنطق‭ ‬الإنكار‭ ‬والتجميد‭.‬
وبينما‭ ‬جعل‭ ‬المغرب‭ ‬من‭ ‬الصحراء‭ ‬نقطة‭ ‬ارتكازٍ‭ ‬لمشروعه‭ ‬الإفريقي‭ ‬والدولي،‭ ‬جعلتها‭ ‬الجزائر‭ ‬ذريعةً‭ ‬لتأبيد‭ ‬القطيعة‭.‬
هي‭ ‬إذن‭ ‬ليست‭ ‬مجرّد‭ ‬قضية‭ ‬حدود،‭ ‬بل‭ ‬اختبارٌ‭ ‬لهوية‭ ‬الدولتين‭ ‬واتجاههما‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭.‬
 
هل‭ ‬آن‭ ‬أوان‭ ‬إطلاق‭ ‬ملف‭ ‬الاندماج‭ ‬المغاربي‭ ‬بحسم‭ ‬ملف‭ ‬الصحراء‭ ‬المغربية‭ ‬لصالح‭ ‬مقترح‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الملف‭ ‬لازال‭ ‬يتطلب‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬والصبر‭ ‬الدبلوماسي؟
لقد‭ ‬أكّدتُ‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬أنَّ‭ ‬حلم‭ ‬الاندماج‭ ‬المغاربي‭ ‬ظلَّ‭ ‬رهينة‭ ‬قضية‭ ‬الصحراء،‭ ‬لأنّ‭ ‬الجزائر‭ ‬جعلت‭ ‬منها‭ ‬ذريعةً‭ ‬لتجميد‭ ‬مؤسسات‭ ‬الاتحاد‭ ‬وشرطاً‭ ‬مسبقاً‭ ‬لأيّ‭ ‬تقارب‭ ‬بين‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭.‬
واليوم،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أُدرج‭ ‬الملف‭ ‬نهائياً‭ ‬ضمن‭ ‬مساره‭ ‬الأممي،‭ ‬وأقرّ‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬بواقعية‭ ‬ومشروعية‭ ‬المقاربة‭ ‬المغربية‭ ‬للحكم‭ ‬الذاتي،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬المنطقة‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭.‬
لقد‭ ‬تحقّق‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يُسمّيه‭ ‬الملك‭ ‬الراحل‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬بـ‭ ‬«سند‭ ‬الملكية‭ ‬على‭ ‬الصحراء‭ ‬المغربية»‭ ‬أي‭ ‬الاعتراف‭ ‬الضمني‭ ‬والفعلي‭ ‬بسيادة‭ ‬المغرب‭ ‬التاريخية‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬أقاليمه‭ ‬الجنوبية‭.‬
وهذا‭ ‬الإنجاز‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وليد‭ ‬الصدفة،‭ ‬بل‭ ‬ثمرة‭ ‬رؤية‭ ‬ملكية‭ ‬بعيدة‭ ‬المدى،‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬الشرعية‭ ‬والتعقّل‭ ‬والنجاعة‭ ‬الدبلوماسية‭.‬
وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬جاء‭ ‬النداء‭ ‬الملكي‭ ‬الأخير‭ ‬لجلالة‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس‭ ‬ليجسّد‭ ‬لحظة‭ ‬نضجٍ‭ ‬سياسيٍّ‭ ‬وتاريخيٍّ‭ ‬نادرة،‭ ‬حين‭ ‬وجّه‭ ‬دعوة‭ ‬صريحة‭ ‬ومؤثرة‭ ‬إلى‭ ‬الرئيس‭ ‬الجزائري‭ ‬وإلى‭ ‬الشعب‭ ‬الجزائري‭ ‬الشقيق‭ ‬لإغلاق‭ ‬هذا‭ ‬الخلاف‭ ‬المفتعل،‭ ‬مؤكداً‭ ‬أنَّه‭ ‬«لا‭ ‬غالب‭ ‬ولا‭ ‬مغلوب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القضية»،‭ ‬وأنّ‭ ‬المستقبل‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُبنى‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬التفاهم‭ ‬وحسن‭ ‬الجوار‭.‬
لقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الخطاب‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬بيان،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يخاطب‭ ‬السياسة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬خاطب‭ ‬الضمير‭ ‬الجمعي‭ ‬للمغرب‭ ‬العربي،‭ ‬واضعاً‭ ‬أسس‭ ‬مصالحةٍ‭ ‬ناضجة‭ ‬تُعيد‭ ‬للمنطقة‭ ‬روحها‭ ‬ووحدتها‭ ‬المفقودة‭.‬
واليوم،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬القضية‭ ‬محسومة‭ ‬على‭ ‬أسسٍ‭ ‬أممية‭ ‬واضحة،‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نأمل‭ ‬بصدق‭ ‬في‭ ‬بعث‭ ‬اتحاد‭ ‬مغاربيٍّ‭ ‬جديد،‭ ‬يكون‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬مجابهة‭ ‬التحوّلات‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬العالم‭.‬
ففي‭ ‬زمنٍ‭ ‬تتقاطع‭ ‬فيه‭ ‬الثورات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬-‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬ثورة‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي-‭  ‬مع‭ ‬رهانات‭ ‬الأمن‭ ‬والطاقة‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬المجدي‭ ‬أن‭ ‬تواجه‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬مصيرها‭ ‬منفردة‭.‬
إنّ‭ ‬بناء‭ ‬مغربٍ‭ ‬عربيٍّ‭ ‬جديد‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬تجاوز‭ ‬الماضي‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬إعادة‭ ‬تأسيس‭ ‬وعيٍ‭ ‬جماعيٍّ‭ ‬يؤمن‭ ‬بأنّ‭ ‬المستقبل‭ ‬لا‭ ‬يُبنى‭ ‬بالعزلة،‭ ‬بل‭ ‬بالشراكة‭ ‬والتكامل‭.‬
فالوحدة،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬التحوّلات‭ ‬الكبرى،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬حلماً‭ ‬رومانسياً،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬ضرورةً‭ ‬استراتيجيةً‭ ‬لبقاء‭ ‬الشعوب‭ ‬ونهوضها‭.‬والمستقبل،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬ليس‭ ‬ملكاً‭ ‬لمن‭ ‬يملك‭ ‬القوة،‭ ‬بل‭ ‬لمن‭ ‬يملك‭ ‬الرؤية‭ ‬المشتركة‭ ‬والإرادة‭ ‬الحكيمة‭ ‬لصنعها‭.‬