يبدو أن للقانون، في كثير من اللحظات، روحًا تُهذّبها السلطة وتُصوغها في قوالب لغوية من قبيل "الردع" و"الهيبة" و"الإنصاف"... غير أنه، أحيانًا، ينطق كأستاذٍ عجوزٍ ضاق ذرعًا بتلاميذه، فيصدح بعبارته الشهيرة: "القانون لا يحمي المغفلين". عبارة قصيرة، لكنها تختزل نسقًا قيميًا واجتماعيًا متكاملًا، وتشي بعقيدة أخلاقية عميقة تتجاوز جدران المحاكم إلى عمق المخيال الجمعي الذي يُعلي من شأن الذكاء الفردي ويُهمّش الضعف الإنساني.
من النظرة الأولى، قد توحي العبارة بعدالة ذكية متألقة، إذ يبدو أن القانون — كما يُقال — لا يمكنه تحمّل تبعات طيبة الناس أو سذاجتهم المفرطة. غير أنّ ما يختبئ وراء هذه المقولة هو منطق اجتماعي صارم ومتشدّد، يجعل من الذكاء الفردي بديلاً عن العدالة الجماعية، ومن الحذر معيارًا للأخلاق، ومن الخداع مهارةً اجتماعية مشروعة.
ليست هذه العبارة مجرد قاعدة إجرائية تحدد حدود تدخل القانون، بل إعلان رمزي عن تحوّل بنيوي أعمق: من مجتمع يرعى الضعفاء إلى آخر يمجّد الأقوياء، ومن منظومة تُؤسَّس لحماية الإنسان إلى منظومة تُبرّر سقوطه باسم ما يُعرف بـ"المسؤولية"، سواء كانت جنائية أو مدنية.
يبدو أن هذه المقولة لم تولد في ردهات المحاكم فحسب، بل في دهاليز السوق الليبرالي، حيث لا مكان للطيّبين إلا في خانة الضحايا. فـ"المغفّل" هنا ليس سوى المواطن الذي لم يتقن بعدُ لغة البنود الصغيرة، ولم يدرك أن الثقة ليست بندًا قانونيًا، بل خطأً ساذجًا في قاموس الاقتصاد والتجارة والمضاربة الاجتماعية. في منطق الرأسمالية، لا تُعدّ الغفلة ضعفًا إنسانيًا فحسب، بل تُعتبر خرقًا معرفيًا يستوجب "العقوبة"، إذ لا يرحم النظام من يجهل قواعد لعبته، ولا يعترف إلا بمن يُتقن فنَّ الحذر والمناورة، ويبرع في المساومة على القيم كما يساوم على الأسعار.
وهكذا يتواطأ القانون مع السوق في إنتاج نموذج الإنسان "اليقظ"، "العقلاني"، "المؤمَّن على نفسه"، و"المحصَّن ضد السذاجة"؛ ذلك الكائن المحسوب بدقّة، الذي يقرأ الشروط حتى الفاصلة الأخيرة، ويقيس المخاطر ببرودة آلة حاسبة، ويتحرّك في الحياة دائمًا وفي جيبه محامٍ افتراضي، وفي ذهنه قاموسٌ من التحوّطات، وفي قلبه فراغٌ من الثقة.
إنها ذروة الفردانية القانونية في صيغتها النيوليبرالية؛ إذ من لا يعرف كيف يحمي نفسه لا يُعدّ جديرًا بالحماية، ومن يجهل قواعد اللعبة يُقصى منها خاسرًا. في هذا الأفق، يتحوّل القانون إلى عقلٍ أداتيٍّ بيروقراطيّ يستبطن منطق البقاء لا منطق العدالة؛ حيث البقاء للأذكى لا للأصلح، وللماكر لا للمحقّ، ولمن يُتقن ليَّ أعناق النصوص لا لمن يؤمن بروحها. وهكذا تنقلب العدالة إلى رياضة ذهنية للأقوياء، ويُختزل الحق في مهارة اقتناصه لا في مشروعيته الأخلاقية أو الاجتماعية.
سوسيولوجيًا، يمكن النظر إلى هذه المقولة باعتبارها آلية رمزية لإعادة إنتاج اللامساواة الاجتماعية والمعرفية. فـ"المغفل" في المنطق القانوني ليس غافلًا بالمعنى الأخلاقي، بل يفتقر إلى الرأسمال القانوني والمعرفي الذي يمكّنه من استيعاب القواعد والرموز التي تحكم الحقل الحقوقي. وبالاستعانة بمفاهيم بيير بورديو، يمارس القانون في هذا السياق عنفًا رمزيًا ناعمًا، إذ يُحمّل الضحية جزءًا من مسؤولية خديعتها، فقط لأنها لم تتقن "اللغة" أو "الكود" الذي يُدار به النظام القانوني، فيتحول الجهل بالقانون من وضع اجتماعي إلى ذنب فردي.
إنها لحظة فارقة في تاريخ اللغة القانونية، لحظة تُجرَّم فيها الطيبة وتُشرعن القسوة باسم العدالة. إذ يُعاد تعريف الاحتيال باعتباره "ممارسة مشروعة" ما دام النص القانوني لا يحرّمه صراحة، ويُحوَّل المظلوم إلى متَّهَم بــ"غباء قانوني" لا بظلمٍ واقعي. في هذا المنعطف، تتجلى إعادةُ تأطيرٍ نيوليبراليةٌ لوظيفة القانون: لم يعُد أداةً لحماية الضعفاء، بل آليةً لتدريبهم على ألا يكونوا كذلك.
لكن هل المطلوب أن يتحول كل مواطن إلى محامٍ؟ أم أن وظيفة القانون الأصلية هي أن يحمي ما هو هشّ في الإنسان لا أن يحتفي بدهاء الأقوياء؟
في قلب هذه المقولة، يقف افتراض أنطولوجي مضمر: أن الذكاء مرادف للحق، وأن السذاجة نوع من الذنب. فـ"المغفل" ليس ضحية، بل آثم لأنه صدّق، وثق، أو تهاون. كأن المجتمع يعاقب فيه الإيمان بالثقة، وهي القيمة التي يُفترض أن القانون جاء لترسيخها.
ويا للمفارقة! القانون الذي يفترض أن يعلّم الناس الأمان، صار يعيد إنتاج منطق الارتياب الاجتماعي، ويغرس فيهم حذرًا مرضيًا من بعضهم بعضًا. فبدل أن يكون أداة لصناعة الثقة الاجتماعية، صار مصنعًا للخوف المتبادل.
من زاوية منظومة القيم المعيارية، يمكن القول إن القانون، في لحظاته النبيلة، هو تجسيدٌ لإرادة العدالة وتجسيمٌ لأخلاقيات العيش المشترك. لكنه حين يتذرّع بعدم حماية "المغفلين"، فإنه يتنصّل من ذاته الأخلاقية ويتنازل عن رسالته الإنسانية. فالغفلة، والنسيان، والطيبة، والثقة وغيرها، ليست رذائل كما يوهمنا المنطق الصارم للعقل القانوني، بل خصائص بشرية أصيلة، هي التي تجعلنا نؤمن، ونحب، ونُخدع، ونتعلّم. إنّ حماية "المغفلين" ليست إذلالًا للقانون، بل استعادة لروحه الإنسانية، واعترافًا بضعفنا المشترك الذي يؤسس لمعنى العدالة نفسها.
إن القانون الحقيقي لا يزدهر في عالم الأبطال اليقظين والنزقين، بل في عالم البشر العاديين، الذين يوقّعون عقودًا دون قراءة، ويصدّقون الوعود، ويخطئون الحسابات، ولا يسجلون المكالمات الهاتفية العابرة، ولا يلتقطون صور من يصادفونهم، ولا يطالبون الآخرين بوثائق ثبوتية عند كل تصرف اعتيادي، ولا... ولا... ولا... . إن حماية "المغفل" تعني تأكيد أن العدل ليس امتيازًا معرفيًا، بل حقًّا إنسانيًا جوهريًا، قائمًا على الضعف البشري بقدر قوته، وعلى الأخطاء بقدر النجاحات.
ربما حان الوقت لردّ الاعتبار لمن يطلق عليهم القانون جزافًا "المغفلين"، أولئك الذين صدّقوا أن التعاقد يعني الثقة، وأن العدالة لا تحتاج إلى دهاءٍ قانوني، وأن وظيفة القانون تكمن في صون الكرامة لا في قياس الكفاءة الإدراكية. إن هؤلاء هم، في النهاية، شاهدنا الأخير على إمكانية الخير في عالم يتآمر ضد البراءة. وحين يُقال إن "القانون لا يحمي المغفلين"، فقد حان الوقت للردّ بتهكّم لطيف: بل المغفلون هم من يحفظون بقايا إنسانيتنا من جفاف القانون، ويذكّروننا بأن العدالة الحقيقية لا تُقاس بالدهاء بل بالرحمة.
د.عبد اللطيف رويان
باحث في سوسيولوجيا الجريمة والانحراف