"وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ".
تبقى سنة 1975 صفحة مزدوجة في تاريخ المغرب الحديث، صفحة المسيرة الخضراء المشرقة التي جسدت أسمى معاني الوحدة والسلم، وصفحة التهجير القسري المؤلم الذي تعرض له آلاف المغاربة المقيمين في الجزائر، في واحدة من أكثر اللحظات قسوة في تاريخ العلاقات بين البلدين الجارين.
ففي ليلة عيد الأضحى المبارك من سنة 1975، وبينما كانت الأسر المغربية المقيمة في الجزائر تستعد للإحتفال بهذه المناسبة الدينية العظيمة في أجواء من الأمل والطمأنينة، تفاجأ الجميع بقرار رسمي صادر عن السلطات الجزائرية يقضي بطرد جماعي لما يقارب 45 ألف أسرة مغربية، أي ما يزيد عن 350 ألف شخص، تم اقتلاعهم من بيوتهم وأماكن عملهم قسرا، في ظروف لا إنسانية ومهينة للكرامة.
لم يكن هذا القرار إلا ردا انتقاميا على انتصار المغرب بمسيرته الخضراء السلمية، تلك الملحمة التاريخية التي قادها جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، واستجاب لها مئات الآلاف من المغاربة الذين لبوا النداء لاسترجاع الأقاليم الجنوبية بطريقة حضارية سلمية دون إراقة دماء.
وقد اعتبرت السلطات الجزائرية آنذاك نجاح المغرب في هذه المسيرة هزيمة سياسية لها، فاختارت أن تفرغ غضبها في الأبرياء من المواطنين المغاربة المقيمين فوق ترابها.
جاء الطرد ليلة عيد الأضحى، في لحظة كان فيها الناس يتهيأون لذبح الأضاحي وتبادل التهاني، فحولته السلطات الجزائرية إلى ليلة من الرعب والفزع، اقتحمت البيوت في منتصف الليل، فصلت العائلات عن بعضها البعض، واعتقل العديد من الرجال والشباب، فيما سلبت الممتلكات وصودرت الأموال والمنازل، خرج المطرودون حفاة، تحت تهديد السلاح، نحو الحدود المغربية الجزائرية، في طوابير طويلة يملؤها البكاء والوجع، كانت الأمهات يحملن أطفالهن في البرد القارس، والشيوخ يسيرون متكئين على عصيهم، والعيون متجهة نحو وطن لم يخذلهم أبدا.
ومن منظور الشريعة الإسلامية، يعد ترحيل الجزائر لآلاف المغاربة في ليلة عيد الأضحى تصرفا منافيا لقيم الإسلام التي تقوم على العدل والرحمة وصون الكرامة الإنسانية.
فالإسلام يرفض الظلم ويأمر بالإحسان إلى الجار، إن تهجير الأبرياء في مناسبة دينية ترمز للتأخي والتضامن يعتبر تعديا على روح الإسلام ومبادئه، ولا يليق بدولة تحسب على الأمة الإسلامية.
ورغم هذا الظلم البين، لم يقابل المغرب القسوة بالقسوة، بل استقبل أبناءه المطرودين بروح التضامن والتآزر، وفتح لهم أبواب الوطن ليجدوا فيه الأمن بعد الخوف، والكرامة بعد الإهانة.
لقد ظل المغرب متمسكا بموقفه النبيل، الداعي إلى الوحدة المغاربية والأخوة بين الشعوب، مؤمنا أن القيم الإنسانية أسمى من الحسابات السياسية الضيقة.
ورغم الجراح التي تركها الماضي، فإن المغرب ظل وفيا لنهجه السلمي والحكيم، مؤمنا بأن الوحدة الترابية لا تصان إلا بالحوار والعقلانية، لا بالعداء والتصعيد.
فكما استرجع المغرب أقاليمه الجنوبية بوسائل سلمية وحضارية عبر المسيرة الخضراء، فإنه يظل مقتنعا بأن قضية الصحراء الشرقية يمكن أن تُحل هي الأخرى بطرق سلمية قائمة على الحوار البناء والتفاهم المتبادل مع الجارة الجزائر، في إطار من الإحترام المتبادل وحسن الجوار.
فالمغرب لا يسعى إلى التفرقة أو العداء، بل إلى العدل والإنصاف التاريخي، وإلى بناء مغرب عربي موحد تسوده الأخوة والتكامل والتعاون من أجل مستقبل مزدهر لشعوب المنطقة.
إن ما حدث في تلك الليلة السوداء من ليالي عيد الأضحى سنة 1975 لم يكن مجرد إجراء إداري، بل جريمة إنسانية مكتملة الأركان، تركت جرحا عميقا في الذاكرة المغربية، وفي ضمير كل من يؤمن بالعدالة وحقوق الإنسان.
واليوم، ونحن نستحضر تلك المأساة، فإننا نفعل ذلك ليس بروح الإنتقام، بل من أجل الإنصاف والذاكرة والكرامة، حتى لا تتكرر مثل هذه الإنتهاكات، وحتى يبقى العيد عيدا للفرح لا للحزن، وللأمل لا للفقد.