يُفكك رشيد قاعدة، وهو أستاذ جامعي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بأكادير، عضو المرصد الوطني للدراسات الاستراتجية، آليات تنزيل الحكم الذاتي في الأقاليم الصحراوية المغربية بعد قرار مجلس الأمن 2797، مستحضرا التجارب الدولية المُقارنة في هذا المجال.
ما هي أسباب تنزيل الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية، وبأي صلاحيات؟
أولا وقبل كل شيء لا يسعنا سوى أن نتقدم للشعب المغربي بأحر التهاني بمناسبة النصر المبين الذي حسم النضال حول استكمال الوحدة الترابية للمملكة المغربية من طنجة إلى الكويرة، وذلك بموجب القرار الأممي حول الحكم الذاتي رقم 2797 كخيار واقعي والمنطقي لإنهاء النزاع حول الصحراء المغربية الذي عمر لنصف قرن، هذا القرار الذي يعد تتويجا لحنكة الدبلوماسية الملكية في التعامل مع هذا الملف المرتبط بالقضية الوطنية الأولى قضية الصحراء المغربية.
وعليه فإن هذا القرار الأممي الملزم لكافة أطراف النزاع أي المغرب والجزائر وكذا جبهة البوليساريو يتمتع بقوة تنفيذية لماذا، لأنه صادر عن هيئة دولية عليا لتسوية النزاعات (مجلس الأمن)، وتضم في عضويتها الأعضاء الدائمين بها أي القوى العظمى في العالم التي عبرت عن تأييدها لهذا القرار ونخص بذلك الولايات المتحدة الأمريكية- فرنسا- بريطانيا... الخ.
لذلك فإن هذا القرار يعتبر إحدى أهم المحطات التي ميزت المغرب الحديث في عهد الملك محمد السادس، إلى جانب القرار المتعلق بالحصول على الاستقلال سنة 1956 من خلال النضال الذي قام به المغفور له محمد الخامس، وكذا القرار المتعلق بالقيام بالمسيرة الخضراء المظفرة سنة 1975 كإحدى أهم مظاهر عبقرية المغفور له الحسن الثاني.
هذا القرار الأممي الشجاع والواقعي يتطلب اتخاذ كافة الإجراءات العملية لتنزيله على أرض الواقع، والذي يفرض أولا النزول إلى طاولة المفاوضات مع الأطراف المعنية به للاتفاق على الخطوط العريضة لهذا النظام، خاصة وأن الأمر يتعلق بإدماج فئات عريضة من اللاجئين من الشعب المغربي المقيمة في مخيمات تندوف في هذا النظام تحت السيادة المغربية، وهو أمر ليس بالهين يتطلب الاتفاق على أدق التفاصيل تفاديا لكل سوء فهم أو تأويل مستقبلا.
وذلك على اعتبار أن الحكم الذاتي هو بمثابة تقرير للمصير للشعوب وخيار استراتيجي لحل الأزمات تحت سيادة الدولة، وعموما فإن تنزيل القرار الأممي حول الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يتطلب القيام بنقل اختصاصات الدولة المغربية مركزيا إلى جهة مناطق الحكم الذاتي، مع احتفاظ الدولة بالصلاحيات المركزية في المجالات التي لها علاقة بسيادة الدولة.
هذه الصلاحيات التي تمنح استقلال أكبر لجهة الحكم الذاتي، خاصة من خلال وجود مؤسسات منتخبة بشكل ديمقراطي تملك سلطات تقريرية هامة تنسجم مع طبيعة نظام الحكم الذاتي الذي يتجاوز ما تتمتع بها الهيئات اللامركزية الأخرى المنتخبة على مستوى باقي الجهات الأخرى الغير المشمولة بنظام الحكم الذاتي. وعليه فإن مناطق الحكم الذاتي لها من الصلاحيات ماهو كافي لتجسيد استقلالها في تدبير شؤونها بمعزل عن أي تدخل خارجي في إدارة الشؤون المحلية والجهوية، مع بقاء القضايا السيادية كالدفاع والخارجية والأمن والشؤون الدينية تحت سلطة الدولة المركزية.
ما هي آليات تنزيل الحكم الذاتي ومداخله؟
نظام الحكم الذاتي يتطلب القيام بما يلي:
أولا: تشكيل مؤسسات محلية منتخبة: سيتم انتخاب حاكم ومجلس منتخب في الجهة التي تتمتع بالحكم الذاتي، لضمان تمثيل مصالح السكان. حيث يمكن لجهة الحكم الذاتي التوفر على حكومة ورئيس حكومة محلية، إضافة إلى مجلس منخب يدبر شؤونها، وكذا قضاء مستقل على المستوى المحلي. مع احتفاظ الدولة باختصاصاتها في ميادين السيادة لاسيما فيما يتعلق بالدفاع والعلاقات الخارجية والاختصاصات الدستورية والدينية للملك باعتباره أمير المؤمنين وفقا لدستور المملكة المغربية لسنة 2011.
ثانيا: تدبير الشؤون المحلية: سيتمكن سكان الإقليم من تدبير شؤونهم بأنفسهم بشكل ديمقراطي، بما في ذلك الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والإدارية.
ثالثا: الاستفتاء الشعبي: اقتراح تنظيم استفتاء شعبي لسكان المنطقة حول مبادرة الحكم الذاتي في إطار احترام حق تقرير المصير، وفقاً لأحكام ميثاق الأمم المتحدة الذي يشير إلى أهمية هذا الحق خاصة المادة الثانية (2) منه، ويؤكد عليه باعتباره إجراء ضروري قبل القيام بالخطوة الموالية المتعلقة بالشروع في دخول الحكم الذاتي حيز التطبيق والذي يتطلب القيام أيضا بتعديلات تطال مجموعة من القوانين حتى تنسجم مع طبيعة النظام الجديد بمناطق نفوذ الحكم الذاتي.
رابعا: الانتقال من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير: وهو ما أكد عليه الملك محمد السادس في الخطاب الملكي يوم الجمعة 31 أكتوبر 2025. حيث قال جلالته: "... لقد قلت في خطاب سابق، أننا انتقلنا في قضية وحدتنا الترابية، من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير. فالدينامية التي أطلقناها، في السنوات الأخيرة، بدأت تعطي ثمارها على جميع الأصعدة. ذلك أن ثلثي الدول بالأمم المتحدة، أصبحت تعتبر مبادرة الحكم الذاتي، هي الإطار الوحيد لحل هذا النزاع.
كما أن الاعتراف بالسيادة الاقتصادية للمملكة، على الأقاليم الجنوبية عرف تزايدا كبيرا، بعد قرارات القوى الاقتصادية الكبرى، كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، وروسيا وإسبانيا والاتحاد الأوروبي، بتشجيع الاستثمارات والمبادلات التجارية مع هذه الأقاليم.
وهو ما يؤهلها لتصبح قطبا للتنمية والاستقرار، ومحورا اقتصاديا بمحيطها الجهوي، بما في ذلك منطقة الساحل والصحراء".
وهو ما يدل على التأكيد على أن المملكة قد انتقلت في قضية وحدتها الترابية إلى مرحلة جديدة من التغيير، مما يعني أن تطبيق الحكم الذاتي سينتقل من مرحلة تدبير إلى مرحلة تنفيذ ملموس يطال مختلف الجوانب القانونية والإدارية انسجاما مع الخصوصيات المحلية للمناطق الجنوبية في إطار احترام السيادة المغربية التامة على هذه المناطق من خلال تواجد مندوب للمملكة بهذه المناطق.
ما هو سياق بروز الحكم الذاتي في عدد من دول العالم؟
يمكن القول إن نظام الحكم الذاتي يعتبر آلية مبتكرة من الناحية القانونية والسياسية في إدارة النزاعات ذات الطابع الانفصالي، أو مخلفات الاستعمار داخل الدول متعددة الأعراق والهوية.
وبالتالي أصبح يشكل هذا النظام خاصة خلال العقدين الأخيرين خيارا استراتيجيا لتسوية الأزمات التي عجزت عنها الحلول العسكرية، أو المفهوم التقليدي للاستفتاء. خاصة وأنه يمنح للشعوب حق تقرير مصيرها بتدبير شؤونها بشكل مستقل وأكثر حرية مع تمتعها باختصاصات دستورية وقانونية جد متقدمة من جهة، ومع خضوعها لسلطة الدولة من جهة أخرى وهو ما يشكل ربحا هاما لكافة أطراف النزاع.
وتعتبر التجربة المغربية متمثلة في مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية المغربية المتنازع عليها، كحل يتمتع بالواقعية وقابلية التطبيق، خصوصا بعد الزخم الذي عرفه مع إشادة المنتظم الدولي بالمقترح، والذي تمثل في قرار مجلس الأمن رقم 2797/2025 بتاريخ 31 أكتوبر 2025 والذي أسس بشكل قطعي ونهائي لمبادرة الحكم الذاتي كأساس جدي لتسوية السياسية للنزاع حول الصحراء المغربية.
خاصة وأنه كما أشرنا لذلك يمثل الحكم الذاتي آلية واقعية لتسوية النزاعات في مختلف دول العالم، وبالتحديد بإفريقيا التي لازالت تصارع من أجل تجنب المواجهات العسكرية التي تهدد الأمن والسلم الدولي، خاصة وأن ذلك يفتح الباب أمام تسلل بعض التنظيمات الإرهابية لتنفيذ أجنداتها التخريبية الإرهابية، إضافة إلى انتشار الأسلحة والدمار وضياع فرصة التنمية بسبب العنف والعنف المضاد.
لذلك فإن غالبية الدول بدأت تتجه نحو اعتماد نظام الحكم الذاتي، وذلك بمبادرة أممية التي ترعى هذه المبادرات لتحقيق السلام للشعوب المنضوية تحت لولاء الأمم المتحدة، مع تقديمها لكافة الوسائل والضمانات الكفيلة بالتنزيل السليم والسلس لهذا النظام، والاستفادة من المفهوم القانوني لهذا النظام الذي يتيح لجهة أو مجموعة ترابية معينة ممارسة صلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية داخل كنف سيادة دولة مركزية، دون المساس بوحدتها الترابية أو بمركزها في القانون الدولي.
وعليه فإن سياق نشأة الحكم الذاتي ارتبطت بتصاعد المطالب السياسية للأقليات داخل الدول القومية، خصوصاً بعد انهيار الكتلة الشرقية في أواخر القرن العشرين، مما دفع الدول إلى البحث عن آليات للحفاظ على وحدتها مع تلبية تطلعات الأقليات ومنع النزاعات الانفصالية. وقد تطور هذا المفهوم في سياقات مختلفة، كالتاريخ الأمريكي في قانون إعادة تنظيم الهنود عام 1934 أو التجارب الفيدرالية في الصين، حيث منح القانون السلطات للأقاليم للتعامل مع القضايا الاقتصادية والسياسية.
كما ارتبط سياق نشأة الحكم الذاتي خاصة في ظل تزايد المطالب بالحقوق الجماعية، مما أدى إلى بروز الحاجة إلى الحكم الذاتي نتيجة لتوترات داخل الدول القومية التي لم تتمكن من تمثيل جميع المجموعات العرقية والثقافية بشكل متساوٍ، مما أدى إلى شعور بعض الأقليات بالإجحاف والتهميش. إضافة إلى ما ترتب على تأثير انهيار الاتحاد السوفياتي حيث أدى انهيار الكتلة الشرقية إلى ظهور مطالبات انفصالية في العديد من الدول، مما جعل مفهوم الحكم الذاتي آلية لموازنة هذه التطلعات مع الحفاظ على وحدة الدولة. وبالتالي أصبح ينظر للحكم الذاتي كآلية أساسية لمحاولة تسوية النزاعات، إذ شكل الحكم الذاتي وسيلة لتسوية النزاعات الداخلية ومنع اللجوء إلى العنف والانفصال، حيث يمنح نوعًا من الاستقلال الذاتي للمناطق التي تتمتع بخصائص ثقافية أو عرقية مميزة.
كيف يتم تطبيق الحكم الذاتي؟
هناك مجموعة من الأسس الدستورية والتشريعية التي يتم الاعتماد عليها لتطبيق الحكم الذاتي تتجلى أساسا من خلال منح صلاحيات قانونية للأقاليم كما أشرنا لذلك سابقا، إذ أنه في بعض الحالات تم منح صلاحيات واسعة للأقاليم من خلال قوانين رسمية، مثل قانون إعادة تنظيم الهنود في الولايات المتحدة، الذي منح الأمريكيين الأصليين مزيدًا من السلطة للحكم الذاتي، أو قرارات مجلس نواب الشعب في الصين بشأن الأقاليم ذات الإدارة الخاصة. كما أنه هناك نموذج متفرد وهو ما يعبر عنه بالفيدرالية "بحكم الواقع" في حالات أخرى، حدث تطور للحكم الذاتي "بحكم الواقع" دون وجود قانون رسمي ينص على ذلك، كما هو الحال في الصين التي منحت صلاحيات واسعة للأقاليم في التعامل مع القضايا الاقتصادية والسياسية، لتُشكّل بذلك "فيدرالية بحكم الواقع".
ولتحديد مدى تطبيق دولة للحكم الذاتي، يمكن اعتماد المعيارين التاليين:
- توفر الأقاليم على برلمانات منتخبة خاصة بها.
- انتخاب حاكم الإقليم بدل تعيينه من طرف السلطة المركزية.
غير أنه انسجاما مع خصوصية النظام المغربي باعتباره نظاما ملكيا مترسخ منذ ما يزيد عن 12 قرنا فإن تطبيق نظام الحكم الذاتي لابد وأن يتميز بعدة مميزات تختلف عن بعض التجارب المقارنة، إذ أن حاكم الأقاليم بمنطقة الحكم الذاتي سوف يتم تعينه من طرف الملك، كما سيتم تعيين مندوب للدولة المغربية بهذه المناطق يمثل الدولة، ويكون همزة وصل بين هذه المناطق والسلطة المركزية. إضافة إلى أن تدبير الشؤون الخارجية للدولة في إطار العلاقات الدولية سيبقى مجالا حصريا للدولة المركزية، مع إمكانية منطقة الحكم الذاتي أن تمارس صلاحياتها على المستوى الخارجي من خلال القيام باتفاقيات مع المنظمات والدول الأجنبية، لكن كل ذلك تحت سيادة المملكة المغربية. إضافة إلى التوفر على برلمان محلي منتخب بشكل ديمقراطي من طرف الساكنة المحلية. ووجود حكومة محلية يرأسها رئيس للحكومة المحلية.
متى تم تطبيق الحكم الذاتي لأول مرة؟
أول تطبيق للحكم الذاتي كان بالولايات المتحدة الأمريكية حيث أقر الكونغرس الأمريكي عام 1934 قانون إعادة تنظيم الهنود، الذي منح الأمريكيين الأصليين مزيدًا من السلطة للحكم الذاتي. ومنها عرفها هذا النظام انتشارا لباقي دول العالم كإسبانيا، حيث أن العديد من المناطق الإسبانية تتمتع بنظام الحكم الذاتي.
وتقترح إسبانيا كدولة فدرالية بحكم الواقع رغم أن قوانينها التأسيسية لا تنص على ذلك، باعتبار كونها تمنح أقاليمها ذاتية الحكم الصلاحيات ذاتها التي تتوفر عليها الأجزاء المكونة للفدراليات. واحتمال أن يسحب البرلمان الإسباني الحكم الذاتي عن أقاليم مثل غاليثيا، كتالونيا أو إقليم الباسك أمر شبه مستحيل سياسيا، مع أنه لا شيء يمنع منه قانونيا. إضافة إلى ذلك فإن جهات مثل نافارا وإقليم الباسك تتمتع بصلاحيات كاملة على الضرائب والإنفاق، وتحول جزءا صغيرا منها إلى الحكومة المركزية مقابل الخدمات العمومية «الجيش، العلاقات الخارجية، والسياسات الماكرو اقتصادية». ويشير فقيه قانوني إلى «الطبيعة الفدرالية للحكومة الإسبانية (كاتجاه لا يمكن لأي كان إنكاره).» وكل إقليم ذاتي الحكم يحكم قانون حكم ذاتي تبعا لدستور إسبانيا لسنة 1978.
هناك أيضا جمهورية الصين الشعبية، حيث تطورت الصين الشعبية كفدرالية بحكم الواقع بدون قانون رسمي ينص على ذلك. وقد حدث ذلك عن طريق منح صلاحيات واسعة للأقاليم بطريقة غير رسمية، للتعامل مع القضايا الاقتصادية ولتطبيق السياسات الوطنية. وهو ما أنتج ما يسميه البعض «فدرالية بحكم الواقع وبخصائص صينية» «في إشارة إلى سياسات دنغ شياو بينغ الشيوعية بخصائص صينية» ودستوريا، تم منح صلاحيات الأقاليم ذات الإدارة الخاصة من جمهورية الصين الشعبية عن طريق قرار من مجلس نواب الشعب.
أيضا جنوب أفريقيا حيث تتكون من تسعة أقاليم تتوفر على برلمانات تمتلك الصلاحيات التالية:
- وضع وتعديل دستور للإقليم.
- وضع تشريعات للإقليم في إطار الصلاحيات التي يحددها الدستور الوطني ويمثل كل إقليم 10 مندوبين في الغرفة العليا من مجلس النواب المسماة مجلس الأقاليم. وينتخب برلمان الإقليم من بين أعضائه وزيرا أول يكون بمثابة حاكم للإقليم، ويمارس صلاحيات تنفيذية واسعة في حدود إقليمه.
أمثلة تاريخية أخرى شملت الأقاليم ذاتية الحكم التاريخية جمهورية إبيروس الشمالية ذاتية الحكم في ألبانيا (1914)، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي (1922-1990).. وهناك نماذج أخرى تنتشر حول العالم مثل الأرجنتين، سويسرا، ماليزيا، باكستان، كندا، البرازيل، العراق، نيجيريا، فينزويلا...الخ.
أي نموذج أمثل للحكم الذاتي حول العالم؟
يمكن القول إنه هناك العديد من النماذج الناجحة كما هو الشأن للولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا، غير أن ما يميز نظام الحكم الذاتي أنه لا يوجد نموذج واحد بالنظر لكون النموذج الأمثل يعتمد على السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي لكل دولة، ولا يمكن تطبيق نموذج واحد على الجميع.
وبالتالي فإن النموذج الأمثل هو الذي يعتمد على تحقيق التوازن بين الحفاظ على سيادة الدولة ووحدة أراضيها من جهة، وتلبية تطلعات الأقليات وحقوقها الجماعية من جهة أخرى، وذلك بشكل لا يؤدي إلى تفاقم الصراع داخل الدولة. وأعتقد أن النموذج الأمثل بما لا يدع مجال للشك هو ما سيطبق بالمناطق الجنوبية بالمملكة المغربية.
كيف يمكن لبلادنا أن تستفيد من التجارب المقارنة لتنزيل نظام الحكم الذاتي على أرض الواقع؟
إن أهم ما يميز المغرب هو تفرده عن باقي دول العالم بعدة مميزات، حيث أن هناك ارتباط وثيق بين الملك والشعب. إذ أن المؤسسة الملكية بالمغرب تلعب أدورا هامة في ضمان استقرار الدولة وكذا ضمانة أساسية لممارسة الحقوق والحريات، إضافة إلى السهر على التطبيق السليم للدستور، خاصة وأن الملوك العلويين هم من أصل شريف «النسب النبوي الشريف»، مما يجعل منهم أمراء للمؤمنين بما لذلك من حمولة دينية ورمزية بالنسبة للمغاربة.
هذا التفرد الذي تتميز بها المملكة المغربية يؤدي إلى نتيجة منطقية وواقعية أن نظام الحكم الذاتي يمكن أن يستلهم مقوماته من التجارب الناجحة عبر العالم لكن وفق الخصوصيات المغربية «نظام الحكم»، وكذا وفق خصوصية المجتمع الصحراوي من خلال احترام بيئته وثقافته ومرتكزاته وهويته التي تتخذ من الثقافة الحسانية رافد أساسي للهوية الصحراوية.
وعليه فإن النموذج المغربي للحكم الذاتي ليس مجرد مقترح إداري أو مناورة دبلوماسية عابرة، بل هو في العمق ترجمة لرؤية ملكية متجذرة في فلسفة الدولة المغربية الحديثة، كما أرساها الملك محمد السادس، إذ حرص على أن تكون السيادة المغربية في الصحراء سيادة متجددة وحية، سيادة تتجسد في القدرة الفائقة على إدماج التعدد والتنوع في إطار وحدة وطنية صلبة.
ومن هنا يمكن لبلادنا الاستفادة من التجارب المقارنة في مجال الحكم الذاتي عبر دراسة نماذج الناجحة مثل إسبانيا وإيطاليا لفهم التحديات والحلول الممكنة. ويتم ذلك من خلال استلهام أفضل الممارسات المتعلقة بتوزيع الصلاحيات، وتعزيز المؤسسات المنتخبة، وضمان الحكامة الجيدة، ودعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإشراك المجتمع المدني. كما يجب الحرص على تكييف هذه التجارب مع خصوصيات السياق المحلي لضمان نجاح النظام الجديد في أرض الواقع.
واستلهام الممارسات الدولية يتم عبر ما يلي:
أولا: دراسة نماذج الحكم الذاتي أي دراسة كيفية تطبيق أنظمة الحكم الذاتي في دول مثل إسبانيا وإيطاليا لفهم أفضل الممارسات في توزيع الصلاحيات، ودور السلطات المحلية، وآليات التنسيق بين السلطة المركزية والمحلية.
ثانيا: تنزيل التوصيات الدولية وذلك عبر التعرف على المعايير والتوصيات الدولية ذات الصلة بالحكم الذاتي، مثل توصيات «لجنة لوند» التي قد توفر إطارًا لمناقشة صلاحيات الجهات أو الأقاليم.
ولتطبيق ذلك على أرض الواقع فإن الأمر يتطلب القيام بتعزيز المؤسسات الجهوية عبر تطوير هياكل المؤسسات الجهوية المنتخبة لضمان كفاءة إدارتها، ونزاهة انتخابات مسؤوليها، وفعاليتها في تدبير شؤونها. إضافة إلى تحقيق العدالة المجالية من خلال العمل على توزيع متوازن للتنمية والفرص على مختلف مناطق البلاد انسجاما مع الرؤية الملكية القائمة على تحقيق جيل جديد من برامج التنمية لتحقيق سرعة متساوية في النمو لمختلف مناطق وجهات المغرب ومنها أيضا منطقة الحكم الذاتي بالمناطق الصحراوية، مع التركيز على الاستثمار بهذه المناطق لتقليل الفوارق. وكذا من خلال دعم التنمية المحلية بواسطة تشجيع المقاولات المحلية، وتوفير فرص الشغل للشباب، ودعم الاقتصاد المحلي لضمان استدامة التنمية الاقتصادية في ظل النظام الجديد.
كل ذلك لن تحقق إلا من خلال بناء التوافق المجتمعي عبر إشراك المجتمع المدني في إنجاح مضامين مبادرة الحكم الذاتي، وكذا من خلال الاستثمار في التربية والثقافة من خلال تعزيز التربية على المواطنة والوعي بقيم النظام الجديد لضمان انخراط السكان في العملية. كما يجب التركيز على تأطير الشباب وتمكينهم للمساهمة في بناء مستقبل مناطقهم بصفة خاصة ووطنهم الأم بصفة عامة.
كيف سيذوب العائدون في مسارب العملية السياسية في حال ما إذا طبق وجرى تنزيل الحكم الذاتي في المناطق الصحراوية بالمغرب؟
أولا لابد من الإشارة إلى أن الخطاب الملكي أشار فيه الملك محمد السادس إلى مسألة أساسية تتجلى في اعتبار سكان مخيمات تندوف إخواننا، وهي كلمة تحمل عدة دلالات، خاصة وأنها صادرة عن أعلى سلطة بالبلاد بصفته الملك رئيس الدولة وأيضا أميرا للمؤمنين، وهي صفة مهمة ينفرد بها نظام الحكم بالمغرب عن باقي الأنظمة الأخرى بالدول العربية. هاته الكلمات التي خاطب بها جلالة الملك اللاجئين بمخيمات تندوف تحمل تطمينات هامة لهم وارتيحا كبيرا، يمهد لهم الطريق نحو المصالحة وبدأ صفحة جديدة قوامها الاحترام المتبادل وتجاوز سلبيات الماضي، وبداية بناء مغرب المستقبل، وهو ما سيكون له انعكاسات هامة أيضا على مستوى دول الجوار كما أكد على ذلك الملك لبناء المغرب العربي الكبير، لما له من انعكاسات سياسية واقتصادية واجتماعية على الدول المكونة له.
كما أشار الملك خطابه إلى عدم التمييز بين المواطنين المغاربة الذين هم سواسية في الحقوق والواجبات، سواء الذين هم اللاجئين في مخيمات تندوف أو إخوانهم الذين يتواجدون بمختلف جهات المملكة المغربية.
وعليه سيتم دمج العائدين في العملية السياسية من خلال آليات سياسية واقتصادية وثقافية تسمح لهم بالمشاركة في الحكم الذاتي، خاصة عبر المصالحة المجتمعية الواسعة والمشاركة في الانتخابات المحلية والجهوية. في ظل تطبيق الحكم الذاتي، سيتم نقل صلاحيات واسعة لتدبير الشؤون المحلية إلى المنطقة الصحراوية مع احتفاظ المغرب بالسيادة على القضايا الأساسية كالدفاع والشؤون الخارجية. ستتضمن العملية السياسية التفاوض حول تقاسم السلطات بين المركز والجهات، وإعادة بناء الثقة من خلال مشاركة جميع أبناء الصحراء، بما في ذلك العائدون من مخيمات تندوف.
وسيتم ذلك من خلال الاعتماد على مجموعة من الآليات السياسية والاجتماعية ذلك بواسطة المشاركة الديمقراطية، إذ سيشارك العائدون في الانتخابات المحلية والجهوية لتمثيل مصالحهم في المجالس المنتخبة. وكذا من خلال القيام بالمصالحة المجتمعية حيث سيتم تنظيم مصالحة مجتمعية واسعة لضمان مشاركة جميع الأطراف، بما في ذلك القادمون من مخيمات تندوف، بهدف تجاوز إرث الماضي. إضافة إلى العمل على توفير كافة الأليات الدستورية والقانونية الكفيلة بتقاسم السلطات حيث سيتم التفاوض حول تقاسم الصلاحيات بين الدولة المركزية والجهة، مع تركيز دور الدولة على قضايا السيادة كالدفاع والشؤون الخارجية. دون أن ننسى أهمية التمثيل الثقافي في تنزيل مضامين الحكم الذاتي بواسطة الاعتراف بالهوية الصحراوية من خلال النقاش الثقافي، وتضمين المكونات التراثية واللغوية الخاصة للمنطقة.
كما أن ذلك يتطلب توفير الآليات الاقتصادية والإدارية من خلال تدعيم الاستقلال المالي، وبالتالي سيتم التفاوض حول تقاسم الموارد المالية المحلية وتدبيرها، بما يشمل الضرائب والمداخيل الناتجة عن الثروات المحلية، دون أن ننسى أهمية توفير إدارة محلية والتي بموجبها سيتم منح الجهة صلاحيات أوسع في تدبير شؤونها المحلية، مثل النظام القضائي والمجال المالي، مما سيشجع على الاستثمار والابتكار.
كل ذلك سيمكن من الاستفادة من الثروات إذ ستُتاح للمنطقة الاستفادة من ثرواتها المحلية الطبيعية، مثل المياه والموارد الباطنية. إضافة إلى باقي الثروات التي تزخر بها مناطق المغرب الصحراوية البحرية والسياحية...الخ.
أي آثار قانونية للقرار الأممي رقم 2797 حول الحكم الذاتي؟
يمكن القول إن القرار الأممي رقم 2797 حول الحكم الذاتي قد شكل تغيرا جذريا في الفكر الأممي وأساليبه في حل النزاعات الإقليمية حول تقرير المصير، إذ أنه كرس في مقاربة جديدة مفادها "الواقعية القانونية" عوض «المنهج القانوني الضيق والجامد». فمجلس الأمن حوّل مشروع الحكم الذاتي من مبادرة مغربية إلى مرجع قانوني دولي لتسوية النزاع، وهو ما يُعد انتصارًا دبلوماسيًا وقانونيًا للمغرب ينضاف لسلسلة نجاحاته الدبلوماسية السابقة التي يتم هندستها بحنكة ملكية سامية.
وبالرجوع لمضمون القرار الأممي نجده يتضمن سابقة قانونية إذ استند إلى مقتضيات الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة «التسوية السلمية للنزاعات»، وليس إلى الفصل السابع، مما يعني أن القرار ملزم سياسيًا كمرجعية تفاوضية. كما أكد القرار على أن الحكم الذاتي «حلّ جاد وواقعي وقابل للتطبيق»، وتم وصفه أيضا بأنه أساس التفاوض، وليس مجرد مقترح ضمن خيارات أخرى.
وبالتالي فإن النتيجة القانونية لهذا القرار الأممي تتجلى في كونه أعاد تعريف «تقرير المصير» انطلاقا من القانون الدولي الجديد ليضحى تقريرًا داخليًا ضمن السيادة المغربية من خلال تطبيق الحكم الذاتي عوض أن يكون «خيارًا خارجيًا بالانفصال». أي أن المفاوضات الأممية يجب أن تتم على أساس مبادرة الحكم الذاتي باعتباره مرجعا أمميا ينهي وبصفة نهائية جميع المطالب بالاستقلال التي ظلت تتغنى بها جبهة البوليساريو وحليفتها الجزائر.
ومن النتائج القانونية المترتب على القرار الأممي كون المغرب أصبح في وضح مريح يجعل منه ليس فقط صاحب السلطة الشرعية على المناطق الجنوبية للمملكة المغربية، ولكنه أيضا الطرف الرئيسي في عملية التفاوض لإنهاء الصراع والبحث عن حل واقعي يرضي جميع الأطراف المعنية بالنزاع، بينما قزم القرار من أهمية جبهة البوليساريو من خلال وضعها في خانة المشارك وليس الممثل الحصري للاجئين بمخيمات تندوف، وكذا كافة مكونات المجتمع الصحراوي، أما حليفتها الجزائر قد أصبحت بموجب القرار الأممي حول الحكم الذاتي لا تتجاوز كونها دولة مجاورة وليس طرفا مباشرا في النزاع، وهذا ما يشكل تحولا قانونيا في غاية الأهمية.
وعليه فإن القرار الأممي قد حمل في طياته اعترافا ضمنيا بالسيادة المغربية على المناطق الجنوبية للمملكة لأنه أشار إلى "الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية". في نص القرار وهذا يشكل في حد ذاته اعترافًا ضمنيًا بمغربية الإقليم من الناحية الواقعية بما له من أثار قانونية هامة.
وعليه فإن عدم قبول أي طرف من الأطراف المتنازعة النزول إلى طاولة المفاوضات مع المغرب فإن ذلك سيجعل النزاع يرجع لنقطة الصفر، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار النصر المحقق للمملكة المغربية الذي يتجلى في كون المغرب هو صاحب السيادة الشرعية للصحراء المغربية وفق القرار الأممي، وأن أي مفاوضات مستقبلية لن تتم إلا وفق مقترح الحكم الذاتي، كما أن الأطراف الرافضة للقرار الأممي ستعتبر دولة مارقة خاصة وأن القرار الأممي تم اتخاذه من طرف مجموعة من الدول المكونة لمجلس الأمن، ومنها الدول العظمى صاحب العضوية الدائمة وأيضا التي تمتلك حق الفيتو بالأمم المتحدة والتي باركت هذا القرار ونخص بالذكر الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، فرنسا.
ناهيك عن الدعم الإسباني، إضافة إلى روسيا والصين اللتان أخذتا مركز الحياد الإيجابي بالنسبة للمغرب، بالنظر للتقارب الموجود بينها وبين الرباط فيما يتعلق بالمجال الاستثماري والاقتصادي بالمناطق الصحراوية، وأن عدم رفضها للقرار يؤكد على تأييدها ولو بشكل ضمني للقرار، كل ذلك دفع الملك إلى دعوة جميع أطراف النزاع إلى بدء صفحة جديدة لطي صفحة الماضي والمضي قدما لما فهي مصلحة شعوب المغرب العربي الكبير، بشكل أخوي مما يعبر عن سمو أخلاق أل البيت النبوي الشريف، إذ ظهر الملك محمد السادس قائدا منتصرا متواضعا وليس منتصرا مزهوا بانتصاره، وهذا في حد ذاته سببا كافيا لباقي الأطراف لإبداء حسن النية بما يتناسب مع الضمانات الإيجابية التي حملها الخطاب الملكي.
إلا أنه في حالة رفض البوليساريو دخول أية مفاوضات بشكل يعرقل التطبيق الفعلي للقرار الأممي، فإن ذلك سيكون له تداعيات سلبية جد هامة تتجلى أساسا فيما تمثله من تهديد للأمن والسلم الدوليين، وكذا حمل السلاح لتهديد دولة منضوية تحت لواء الأمم المتحدة، إضافة إلى الاتجار في البشر، مما يمهد الطريق للعملية التي بدأت منذ أشهر عدة تلوح في أفق والتي تتجلى في اعتبار جبهة البوليساريو كمنظمة إرهابية. وهو ما لا يتمناه جميع أطراف النزاع ورأسهم المغرب الذي يرى في هذا القرار مناسبة لحقن الدماء ودعوة أبنائه من اللاجئين بمخيمات تندوف للعودة لأرض الوطن، على اعتبار أن الحكم الذاتي يشكل فرصة تاريخية لهم للخروج من براثن الذل والتشرد والعزلة.