تشير السيادة الجينومية الإفريقية إلى قدرة بلدان القارة على إنتاج وتحليل وتخزين وحماية بياناتها الجينية دون اعتماد على المختبرات أو المنصات الأجنبية.
وهي تتطلب إنشاء بنى تحتية محلية متقدمة لتسلسل الجينات، وتكوين خبراء أفارقة في علم المعلوماتية الحيوية، ووضع أطر أخلاقية وقانونية تضمن سرية البيانات، إضافة إلى تطوير أبحاث علمية تراعي الخصوصيات الصحية والاجتماعية لكل بلد.
هذه السيادة ليست مجرد مشروع علمي، بل هي رهان اقتصادي واستراتيجي، لأنها تُمكّن إفريقيا من فهم خصوصيات شعوبها، واستباق الأمراض الوراثية، وتطوير علاجات موجهة، وحماية كرامتها البيولوجية في زمن تتحكم فيه التكنولوجيا الحيوية وتجارة البيانات بمصير العالم.
من 13 إلى 15 نونبر 2025، ستكون الرباط على موعد مع حدث علمي غير مسبوق: المؤتمر المغربي الأول للوراثة الطبية.
حدث يتجاوز الطابع الأكاديمي ليؤسس لطموح وطني كبير: جعل علم الوراثة رافعة استراتيجية للتنمية والسيادة الصحية.
فخلف المجاهر وأجهزة تسلسل الحمض النووي، تدور معركة عالمية حول من يملك السيطرة على "شيفرة الحياة".
إقتصاد في تحول عميق
بلغ حجم السوق العالمية لعلم الجينوم 32.6 مليار دولار سنة 2023، ومن المتوقع أن يتجاوز 95 مليار دولار بحلول 2030.
أما سوق تسلسل الحمض النووي، الذي يُعد القلب النابض لهذه الصناعة، فقد بلغت قيمته 12 مليار دولار، ومن المنتظر أن يتضاعف أربع مرات قبل نهاية العقد.
وفي منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، تشير التقديرات إلى بلوغ 4.5 مليارات دولار سنة 2033، ما يعكس دخول المنطقة بقوة في اقتصاد الطب الدقيق والبيولوجيا الرقمية.
المغرب في لحظة حاسمة
لم يتخلف المغرب عن الركب.
جامعاته تتطور، ومستشفياته الجامعية تعزز قدراتها، وجيل جديد من الباحثين المغاربة يُظهر حيوية علمية لافتة.
وكما يؤكد الأستاذ كريم أولديم، رئيس الجمعية المغربية للوراثة الطبية (SMGM):
" على المغرب أن ينتقل من مرحلة الاستخدام إلى مرحلة الإنتاج في مجال الجينوم الطبي، لأن السيادة الجينومية هي مفتاح سيادتنا العلمية والصحية."
ولتحقيق ذلك، يجب على المملكة بناء بنية تحتية وطنية لتسلسل الجينات وتخزين البيانات البيولوجية بأمان، لأن كل عينة تُرسل إلى الخارج تمثل خسارة زمنية ومالية، والأخطر من ذلك، إفتضاح وخسارة بيانات استراتيجية تخص صحة المغاربة.
فهمٌ أعمق... للوقاية الأنجع
تُعد الأمراض الجينية المسماة "بالنادرة" تحديًا صامتًا لكنه خطير في المغرب، وغالبًا ما ترتبط بزواج الأقارب وغياب برامج الكشف المبكر.
إن إنشاء برنامج وطني للوقاية الجينية يشمل الفحص قبل الزواج، والفحص قبل الولادة وبعدها، من شأنه أن يقلل بشكل كبير من هذا العبء الصحي والاجتماعي.
فالوراثة الطبية لم تعد ترفًا علميًا، بل حقًا إنسانيًا يجب أن يُكفل للجميع، تمامًا كما هو الحال مع التلقيح والكشف عن السرطان.
مؤتمر يؤسس لرؤية وطنية
لن يكون مؤتمر الرباط مجرد منصة أكاديمية، بل حدثًا تأسيسيًا يجمع الأطباء والباحثين والاقتصاديين وصناع القرار ضمن رؤية وطنية موحدة.
الهدف: إخراج علم الوراثة من الهامش وجعله أحد أعمدة التنمية الوطنية، على المستويات العلمية والاقتصادية والإنسانية.
الحمض النووي… هوية وطنية
في عالم أصبحت فيه الصحة أداة جيوسياسية، فإن امتلاك الشيفرة الجينية يعني امتلاك المصير.
الحمض النووي لم يعد مجرد جزيء بيولوجي، بل أصبح رمزًا للهوية الوطنية، ومفتاحًا للسيادة الصحية والكرامة العلمية.
والمغرب، الواعي بأهمية هذه الثورة، يدخل اليوم هذه الحقبة الجديدة بثقة، مدركًا أن ثروته الحقيقية تكمن في قدرته على فهم ذاته وحماية كوده الجيني.
الدكتور أنور الشرقاوي، خبير في التواصل الطبي والإعلام الصحي