أفاية يرصد خرائطية البحر المتوسط السينمائية في إصدار جديد

أفاية يرصد خرائطية البحر المتوسط السينمائية في إصدار جديد الكتاب الجديد لمحمد نورالدين أفاية

قِبْلَة عالمية كانه البحر الأبيض المتوسط وما يزال؛ فضاء للتبادل والحروب، للوحدانيات والتعدد، للتواصل والانسدادات، للتسامح والتطرف. يشهد هذا الحوض التعارضات كافة: الدينية، الإثنية، الوطنية، السياسية والثقافية التي تحتدُّ وتتفاقم كُلما نشب نزاع خلخل العلاقات والتوازنات؛ خصوصا منذ 11 شتنبر 2001، وتداعيات احتلال العراق سنة 2003، والحروب غير المُتناظِرة التي نجمت عن "الربيع العربي" منذ 2011، وانعكاسات خروج بريطانيا من أوروبا، وتنامي الشعبوية واليمين المتطرف، وتحدِّي الهجرة، وجائحة كورونا، وحرب أوكرانيا، إلى الإبادة البربرية التي قامت وتقوم بها الصهيونية العالمية للشعب الفلسطيني.

تميَّز الفضاء المتوسطي دوما بدرجات متفاوتة من التوتر وتعبيرات العنف والتصادم، حسب السياقات وتوازنات القوى الفاعلة، وهي تعبيرات تُشوش على فرص اللقاء وتُغذي الأحكام المسبقة، وتُعمق مشاعر رفض الآخر. وعلى الرغم من توافر إرادات التفاعل والتبادل من هذه الجهة أو تلك، يجد المتوسطيون أنفسهم مُعرضين لاحتمالات لا حصر لها من الانسدادات والحواجز لأسباب جيوسياسية، ولعقليات لا تزال مُرتهِنة لمُتخيَّل كولونيالي، ولنزعات تدعو إلى الانغلاق الهوياتي والديني، وما يتمخض عن ذلك من تفكك وإرادة سيطرة.

يَعْرض الكتاب الجديد لمحمد نورالدين أفاية "ضفاف النظر؛ لغة بصرية مشتركة في حوض المتوسط" (منشورات مؤسسة مهرجان تطوان السينمائي- 2025)، لبعض هذه المعطيات ولِما يُشكل وسائل مقاومة لإرادات الاستبعاد، وسياسات الفصل، ومختلف الأسلاك الشائكة التي تضعها الدول أمام حركة الأجساد والأفكار. ويتناول الكتاب تعبيرات الإنتاج البصري والإبداع السينمائي بشكل أبرز باعتبارها تؤكد، باستمرار، على قدرتها على خلق وسائلها وأساليبها المميزة لتجاوز العوائق والموانع والوصول إلى جمهورها بين ضفتي المتوسط.

يتعلق الأمر في هذا العمل بإعادة التفكير في البحر الأبيض المتوسط في ظل ما يشهده من متغيرات وتقلبات. وقد عمل صاحبه على استعراض العديد من المعالجات النظرية والإيديولوجية التي تناولته، ولكن من منطلق البحث عن المسالك المتنوعة التي يبتدعها المتوسطيون وغير المتوسطيين لتكسير الحواجز المختلفة، والسدود المُنتصَبة أمام حركة الأجساد. ومن بين هذه الوسائط تبرز ما أسماه أفاية "لغة بصرية مشتركة" lingua franca visuelle تتمثل في السينما والأدوات السمعية البصرية، متوقفا عند طرق وكيفيات تنظيم شروط عرْضِها، ومُشاهدتها، والتفاعل معها؛ حيث يحرص فاعلون مدنيون، ونخب على جعل "المهرجانات المتوسطية" مِنصَّات وفضاءات للقاء، وكسر الحواجز والحدود، وتنشيط المجالات الترابية والمدن التي تنعقد فيها. تحفز هذه الأطر الشباب والجمهور على المشاركة، وعلى المشاهدة الذكية للإبداع السينمائي المتوسطي، وتخلق جسور التواصل والتفاعل الفني والثقافي بين مختلف الفعاليات التي تساهم في صنع الأفلام، سواء كانت روائية، قصيرة، وثائقية وغيرها من الإنتاجات البصرية.

يتكون الكتاب من قسمين؛ ركَّز نورالدين أفاية في القسم الأول على "المتوسطية باعتبارها إمكانًا بصريًا" حيث تناول فيه الصراع الذي يسكن النظرات إلى المتوسط، وما شكَّله ويُشكله جيوستراتيجيا من أهمية في التموقعات التي تحرك القوى المختلفة المصالح للتمكن من أوضاعه. واستحضر ما ينجزه السينمائيون من أعمال وحكايات لكشف التمظهرات الجديدة التي تفرزها التحولات الهيكلية التي حصلت وتحصل في المجتمعات المتوسطية وتداعياتها على الثقافات والأجساد والعلاقات.

وفي هذا السياق تعرَّض أفاية إلى ما أسماه "الخرائطيات الشعرية" للسينما المتوسطية وتأثير صانعيها على السينما العالمية، بدءا من اكتشاف السينماتوغراف، وتيارات الواقعية، في تعبيراتها الشعرية والجديدة، والسوريالية، والموجة الجديدة، وغيرها من الأساليب وأنماط الحكي التي أنتجها المُتخيَّل السينمائي المتوسطي. ظهر ذلك، بجلاء، في هجرة مخرجين ذوي الأصول المتوسطية إلى هوليود (مثل مايكل شيمينو، فرانسي فورد كوبولا، مارتين سكورسيزي، سيوجيو ليوني، إلى كوانتان ترانتينيو وغيرهم من المخرجين والممثلين الكبار ومؤلفي الموسيقى من طراز إينيو موريكوني....)، حيث أدخلوا أبعادا جديدة في أفلامها، وضخُّوا نظرات متجذرة فجروا صورها في شكل أعمال خالدة انتشرت في العالم كافة. كما ساهمت الهجرة المغاربية إلى أوروبا، والتركية إلى ألمانيا، ومشاركة سينمائيين أوروبيين في أفلام الضفة الجنوبية في انتقال حساسيات وكفاءات متوسطية أنتجت تثاقفًا إبداعيًا متنوع الأشكال والتعبيرات.

كما تضمن هذا القسم قضايا تتعلق بمسألة الصورة والمناقشات التي دارت حول أهمية ما هو بصري في الإنتاج الثقافي، والكيفيات التي بها ينتقل هذا الإنتاج عبر الحدود والثقافات، وطرق عرضه ومشاهدته، والتفاعل مع قضاياه وموضوعاته، مستعرضا العديد من التظاهرات والمهرجانات التي جعلت من السينما المتوسطية قضية ثقافية وجمالية لها تجليات تعاند النماذج التي تفرضها هوليود أو منصات البت والإنتاج السينمائي الجديدة.

أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصه نورالدين أفاية إلى ما يعتبره إشكالية مركزية في "الثقافات المتوسطية" المتمثلة في الهُوية. وعلى الرغم من المحاولات النظرية التي ادعت تجاوز هذه الإشكالية، يبدو أن الإنتاج السينمائي المتوسطي لا يتوقف عن إبراز تمظهرات الهوية والتغيرات التي تطرأ على طرق التعبير عنها. ومن أجل الاستدلال على هذا المعطى المتغير التعبيرات، واستمرارية حضوره تناول جملة أفلام بالعرض والتحليل؛ تونسية، ومغربية، وفرنسية، متوقفا عند المنجز السينمائي ليوسف شاهين ابتداء من فيلم "إسكندرية ليه...؟" إلى "إسكندرية نيويورك".

أمام تنامي قوى اليمين المتطرف ورفض الآخر، والانغلاق، واستراتيجيات تبرير القتل والإبادة، شهد العالم المتوسطي كيف أن أغلب بلدان أوروبا "الديمقراطية ومصدر حقوق الإنسان والمواطن" فقدت روحها وتنكَّرت للقيم التي ادعت تمثيلها طيلة أكثر من قرنين، كما عبَّر ذلك جان لوك غودار في فيلم "كتاب الصورة"؛ ولا سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والموقع البائس الذي أضحى عليه العالم العربي. غير أنه، على الرغم من ذلك، وبفضل فاعلين ونخب غير مستعدة للتخلي عن إنْسيتها ومبادئِها تنتظم، هنا وهناك في ضفتي المتوسط، تظاهرات ومهرجانات تعرض فيها الصور المتجددة للعوالم والمجتمعات المتوسطية، وتقترح فُرْجات جاذبة تكثف جدليات ما يعيشه المتوسطيون من مآس، وحالات ضيق، وبين نزوع عظيم لحب الحياة.

لا يكتفي كتاب "ضفاف النظر؛ لغة بصرية مشتركة في حوض المتوسط" لمحمد نورالدين أفاية بمساءلة النظرة إلى حوض الأبيض المتوسط في علاقته بالسينما فقط، وإنما يعمل على صياغة فكرية ونقدية للعديد من القضايا النظرية المرتبطة بالهُوية، والمغايرة، والحدود، والإبداع، والمشاهدة، والمسألة البصرية في الثقافة المعاصرة.