كلمة ملكية... وتحول ديمقراطي عميق
كما هو ملاحظ، هذا ثالث مقال لي حول خطاب 10 أكتوبر خلال أربعة أيام. بعد مقالين تفسيريين بنهج ديداكتيكي، أقدم هنا مقالًا تأمليًا يحفز على التفكير العميق، لما يمثله الخطاب من أهمية في الفكر السياسي عموماً، والعلوم السياسية والإدارية خصوصاً.
لقد توقفت كثيرًا عند خطاب 10 أكتوبر لأنه يمثل جوهر عملي العلمي والمهني كباحث وخبير في الحكامة. لا غرابة، فهو خطاب ذو أهمية استراتيجية كبرى، ويأتي في ظرف حساس من مسار الدولة والمجتمع المغربيين.
في تقديري، لا يقل هذا الخطاب أهمية عن خطاب 9 مارس 2011 الذي أسس لمرحلة جديدة، لكن هذه المرة لا يقتصر على إعادة رسم الإطار المؤسساتي فقط، بل يعيد تعريف جوهر الشرعية السياسية ومفهوم النجاح العمومي.
لقد تضمن الخطاب استجابة استراتيجية لمطالب عميقة، بعضها صريح ومباشر، وبعضها ضمني ومتراكم، تتقاطع كلها في الحاجة إلى نموذج ديمقراطي أكثر نجاعة وأقرب إلى واقع المواطن، قادر على إحداث التغيير الملموس (راجع مقالنا: "العدالة الاجتماعية والمجالية في خطاب الملك: استجابة استراتيجية لانتظارات الشباب المغربي").
تجاوز ديمقراطية الانتخاب نحو ديمقراطية الإنجاز
خطاب جلالة الملك محمد السادس يوم 10 أكتوبر 2025، بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية، لم يكن مجرد توصيف للأوضاع أو توجيهًا عامًا، بل كان دعوة صريحة إلى تحول ثقافي وإداري وسياسي.
الرسالة الجوهرية: لم يعد صندوق الاقتراع كافيًا لإنتاج الشرعية السياسية، بل أصبحت النتائج المحققة والأثر الفعلي هما أساس الحكم على السياسات والمسؤولين.
نحن أمام تحول في مفهوم الديمقراطية نفسه، من مقاربة تمثيلية صرفة إلى مقاربة تقييمية قائمة على الإنجاز.
حدود ديمقراطية الانتخاب في السياق المغربي
رغم أهمية الانتخابات كممارسة ديمقراطية، إلا أن التجربة المغربية تُظهر أن الشرعية الانتخابية تعاني من ضعف مستمر وتشكيك مزمن، من أبرز تجلياته:
مثال واقعي: عدد من الجماعات التي وعدت سنة 2021 بإصلاح قطاع النظافة والنقل، فشلت في تحقيق نتائج، بل زادت حدة المشاكل، كما هو الحال في بعض المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وفاس، حيث ما زالت الاختلالات قائمة رغم الميزانيات المرصودة.
ديمقراطية الإنجاز: المواطن كحكم حقيقي
في ضوء هذا الواقع، يطرح الخطاب الملكي رؤية متقدمة لـ"ديمقراطية الإنجاز"، التي ترتكز، من بين ما ترتكز عليه، على فكرة أن المواطن لم يعد ناخبًا موسميًا فقط، بل أصبح فاعلاً في التقييم اليومي للخدمات العمومية.
ركائز ديمقراطية الإنجاز:
من منطق الوسائل إلى منطق النتائج
يدعو الخطاب الملكي بوضوح إلى نقلة نوعية في منهجية العمل العمومي، عبر تغيير النموذج من التركيز على الإجراءات والميزانيات إلى التركيز على الأثر والتحول الاجتماعي (راجع مقالنا: "التدبير بالنتائج": رؤية ملكية لمغرب يربط الأداء بالمحاسبة).
المجال |
منطق تقليدي |
منطق جديد |
التخطيط |
عدد المشاريع |
جودة الحياة |
التنفيذ |
احترام المساطر |
تحقيق الأثر |
التقييم |
تقارير شكلية |
مؤشرات نجاعة واقعية |
علاقة المواطن |
ناخب كل 5 سنوات |
شريك دائم في التقييم |
مثال في التعليم: لا تكفي أرقام مثل "بناء 300 مؤسسة"، بل المطلوب معرفة:
تحوّل ثقافي قبل أن يكون إداريًا
الانتقال إلى ديمقراطية الإنجاز ليس مجرد قوانين أو خطط عمل، بل هو ثورة ثقافية داخل الدولة والمجتمع تشمل:
ربط الأداء بالمحاسبة... مدخل لاستعادة الثقة
في ظل أزمات الثقة المتزايدة بين المواطن والدولة، تقدم ديمقراطية الإنجاز فرصة حقيقية لترميم العلاقة المهزوزة. فالمواطن لا يطلب المستحيل، بل:
ختامًا: من شرعية الصندوق إلى شرعية الأثر
الشرعية السياسية اليوم لم تعد تُستمد فقط من الأصوات في الصناديق، بل من التغيير في الواقع اليومي للمواطن. وهذا يتطلب:
نحن أمام لحظة تأسيسية لنموذج جديد من الحكامة الديموقراطية يقوم على:
مقولة على الهامش:
"الديمقراطية لا تُقاس بعدد الانتخابات، بل بقدرتها على تغيير حياة الناس نحو الأفضل."
- أمارتيا سين، مفكر اقتصادي وفيلسوف هندي
ملاحظات ختامية للقارئ أو صانع القرار:
محمد براو
الباحث والخبير الدولي في الحكامة ومكافحة الفساد