الثقافة لها رائحة، رائحة لا تشبه غيرها، تمتزج فيها أنفاس المدن القديمة بصدى الحروف الأولى التي كتبت على جلد الذاكرة. للمغرب رائحة مخصوصة، تخرج من الزوايا والمآذن، من الورق الذي حمل الشعر والفتاوى والحكايات، من الزليج الموشى بالحبر، ومن الخبز الساخن الذي يكسر عند الفجر. تلك الرائحة كان يفترض أن تهاجر معنا، أن تفتح لنفسها بابا في باريس عبر مركز ثقافي مغربي يكون بمثابة الرئة التي يتنفس منها المهاجرون عبق بلدهم، ولكن الباب لم يفتح، والمشروع لم يولد، دفن قبل أن يرى النور، وكأننا اكتشفنا فنا جديدا نحمله معنا إلى المهجر: فن الدفن المغربي.
الدفن هنا ليس حفرا في الأرض، بل عملية بطيئة، أنيقة، تمارس بلباقة رسمية. مشروع يعلن عنه، يناقش في الاجتماعات، ثم يترك ليتآكل في الظل. إنها ثقافة الدفن الهادئ، حيث تموت الأفكار بالانتظار، وتغلق الأبواب بلا ضجيج. لا أحد يتآمر علنا، بل الجميع يشارك بصمته في دفن ما كان يمكن أن يكون نافذة مضيئة على المغرب في قلب أوروبا.
هكذا تتحول الثقافة من كيان حي إلى بند إداري، إلى ملف مُرقم ينقل من مكتب إلى آخر. يدفن المشروع حين تختصر الثقافة في موازنة، حين يقاس الإبداع بعدد الأنشطة لا بعمق الأثر، حين تفرغ الكلمة من معناها وتُملأ بنبرة دعائية. في المهجر، حيث يختلط الحنين بالمنفى، يحتاج المغربي إلى بيت يضبط إيقاع الذاكرة، إلى مكان يشبهه ويعكس صورته، لكن الصورة تمحى في كل مرة قبل أن تكتمل، كلوحة يغسلها المطر قبل أن يجفّ لونها.
إن دفن مشروع المركز الثقافي المغربي في باريس ليس حادثا معزولا، بل مرآة لعلاقة مزمنة مع الفعل الثقافي: نؤجل، ننتظر، نبرر، ثم ننسى. ندفن مشاريعنا كما ندفن حكاياتنا القديمة، خوفا ان تذكّرنا بما أهملناه. نبرع في إقامة الجنائز الرمزية لها، ونقيم لها تأبينا لائقا، ونخرج مطمئنين أن شيئا لم يتغير.
لكن الرائحة لا تدفن. إنها تتسرب من بين الأوراق المترامية بفعل الخريف، من الأغاني التي تغنّى في المقاهي الباريسية، من الشعر الذي يكتب على الورق المبعثر، من الأطباق التي تحمل في طعمها ظل الوطن. المهاجرون يخلقون ثقافتهم بأنفاسهم، يصنعون من اليومي فنا ومن الحنين مادة خاما للجمال. حتى في غياب المركز، تظل الثقافة تمارس وجودها بعناد صوفيّ، كما يفعل الزهر الذي ينبت في الشقوق.
دفن المشاريع قبل ولادتها صار فنا مغربيا بطعم مغيّب، فنا يزاوج بين المهارة في التبرير والإتقان في النسيان. لكنه فنّ قاتل، لأنه يدفن الروح قبل أن تنضج، ويمنع الرائحة من أن تنتشر. فحين تغلق أبواب المكان الذي كان يفترض أن يكون بيت الكلمة والصورة، يغلق معها جزء من تاريخٍ طويل مع الكتاب، مع الحرف المغربي الذي كتب العالم ذات زمن، مع الذاكرة التي صاغت الجمال من الطين والنور.
إن الصورة التي تحمل ملامح هذا التاريخ العريق -كتب مفتوحة على زليج أزرق، حبر يقطر من الزمن، يد تقلب صفحة كأنها تلمس وجها- ليست مجرد مشهد جمالي، بل شهادة على دفن رمزيّ. كل لوحة وكل قصيدة وكل كتاب غير معروض هو شاهد قبر على مشروع لم يولد. لكنّ الصورة أيضا دعوة للنبش، لاستعادة الرائحة من التراب، للقول إن المغرب لا يختصر في البنايات والميزانيات، بل في تلك القدرة الغامضة على تحويل الغياب إلى حضور، والموت إلى استعارة للولادة.
الثقافة المغربية في المهجر ليست مشروعا مؤسسيا مؤجلا، بل طاقة حيّة تتحرك في كل ما يفعله الشباب حين يخلطون جذورهم بالمدينة الجديدة. إنهم لا يهربون من الأصل، بل يعيدون كتابته، يزرعون المغرب في أمكنة جديدة، ويحوّلون الغربة إلى مساحة للخلق لا للغياب.
ربما لم ننجح بعد في فتح الباب الرسمي، لكن الأبواب الصغيرة مفتوحة في الأرواح، في النوايا الطيبة، في كل مبادرة تجمع المغاربة حول كلمة أو فكرة أو ذكرى. هناك، في هذا الامتزاج الهادئ بين الجذر والنبض الجديد، تستمر الرائحة في الصعود. هذه ليست نهاية مشروع، بل بداية وعي جديد بأن الثقافة لا تنتظر ترخيصا لتولد، وأن المغرب، أينما وجد أبناؤه، سيظل يتنفس من رائحته الأولى.
إن الدفن قبل الولادة هو أيضا مرآة لمستقبل يمكن أن يبعث من تحت الركام. فالثقافة لا تموت، بل تنتظر من ينفض عنها الغبار. كل ما نحتاجه هو أن نؤمن بأن الرائحة تستحق أن تشمّ، وأن الكلمة تستحق أن تسمع، وأن المشروع المؤجل يمكن أن يعود حيّا إذا أصررنا على فتح الباب. في المهجر، لا نحتاج فقط إلى مبنى يحمل إسم المغرب، بل إلى شغف يعيد إلى الذاكرة رائحتها، إلى حبر يسيل من القلب، إلى ولادة لا تدفن قبل أن تبدأ.