شكل الخطاب الملكي، الذي ألقاه الملك محمد السادس أمام البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشرة، محطة مفصلية في رسم ملامح توجهات الدولة المغربية في مجال السياسات العمومية وتأكيدا لرؤية "المغرب الصاعد" التي تم تبنيها في مجموعة من الخطب الملكية التي تشكل كما هو معروف دعامة مركزية لتأطير وهندسة السياسات العمومية بالمغرب، خصوصا الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لتربعه على العرش. فالخطاب الملكي أمام البرلمان يمثل وثيقة مرجعية استراتيجية ترسم معالم أولويات الدولة في الوقت الراهن، وتوجه تدخلات مؤسساتها في سياق وطني دقيق يتسم بتعدد التحديات وتزايد حدة الانتظارات المجتمعية، خصوصا وأنه جاء في ظرفية دقيقة تتسم بتصاعد المطالب الاجتماعية واتساع الفوارق المجالية، وذلك في مقابل الزخم التنموي الذي راكمته الدولة من خلال إطلاق العديد من المبادرات الكبرى خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد اعتماد النموذج التنموي الجديد. من هذا المنطلق، تهدف هذه الورقة تحليل مضامين الخطاب الملكي من منظور تحليل السياسات العمومية، بغية الوقوف عند الرهانات الأساسية التي يطرحها، واستشراف آثاره المحتملة على مستوى فعالية ونجاعة السياسات العمومية بالمغرب.
أولا: العدالة الاجتماعية والمجالية والاجتماعية بوصلة للسياسات العمومية
أكد الملك في خطابه أن العدالة الاجتماعية والمجالية لم تعد مجرد شعار مرحلي يمكن تجاوزه بتغير السياقات أو الأولويات، بل أصبحت توجها استراتيجيا دائما وضروريا ينبغي أن تؤطر مختلف السياسات العمومية. ويبرز من خلال هذا التأكيد تحول عميق في تصور الدولة لأدوارها الاجتماعية، حيث لم يعد من المقبول استمرار الفوارق المجالية أو تهميش بعض المناطق في الاستفادة من ثمار النمو الوطني. ويقتضي هذا التوجه إعادة هيكلة السياسات العمومية على المستويين الوطني والترابي، عبر تبني سياسات مندمجة تتأسس على تشخيص دقيق لحاجيات السكان بمختلف فئاتهم العمرية، وتراعي خصوصيات المجالات الجغرافية المختلفة، مع تخصيص موارد كافية وضمان الالتقائية بين البرامج القطاعية. وهنا تتجلى أهمية ما وصفه جلالة الملك بـ"التمييز الإيجابي" لفائدة المناطق الهشة، ولا سيما الجبلية والواحات، بما يضمن تحقيق التوازن بين المجالات وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنات والمواطنين.
ثانيا: الارتقاء بدور الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين تكريس للحكامة التشاركية
خصص الخطاب الملكي حيزا مهما لتقييم وتوجيه العمل البرلماني، منوها بالجهود المبذولة في مجال التشريع ومراقبة العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية. غير أن الإشادة جاءت مشروطة بدعوة صريحة وواضحة إلى تعزيز الفعالية والنجاعة، إلى جانب رفع منسوب الالتزام والمسؤولية، خاصة في السنة الأخيرة من الولاية التشريعية، بما يفرض إتمام مختلف المشاريع المفتوحة وتفادي منطق الركود المؤسساتي الذي يسبق عادة المحطات الانتخابية.
وفي هذا السياق، وسع الخطاب الملكي من دائرة المسؤولية السياسية، حيث شدد على أن تأطير المواطنات والمواطنين وتبسيط السياسات والقرارات العمومية لا يقتصر فقط على مؤسسة الحكومة وحدها، بل يعد مسؤولية جماعية تشمل جميع المؤسسات السياسية الأخرى وفي مقدمتها البرلمان، والأحزاب السياسية، والمنتخبين، والمجتمع المدني، ووسائل الإعلام. وهو ما ينسجم ويتماشى، أي هذا التوجه، مع منطق الحكامة التشاركية الذي بدأ يرسخ تدريجيا في السياسات العمومية المغربية، بل ويتجاوز احتكار الدولة لمهام التدبير، لصالح انفتاحها على باقي الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين، بما يعزز من شرعية ونجاعة السياسات العمومية.
ثالثا: التنمية الترابية الشاملة المتكاملة: رؤية استراتيجية لمعالجة الهشاشة
يبرز الخطاب الملكي الحاجة الماسة إلى تحديث آليات ومناهج التنمية الترابية من خلال جيل جديد من البرامج التنموية، يستجيب لتحديات الواقع ويقطع مع الأساليب التقليدية التي ثبتت التجربة محدوديتها. وقد ركز الخطاب السامي بشكل خاص على ثلاث قضايا أساسية: أولا، إعطاء عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة، بما يراعي خصوصياتها وطبيعة حاجياتها، وخاصة مناطق الجبال والواحات. ثانيا، التفعيل الأمثل والجدي لآليات التنمية المستدامة للسواحل الوطنية بما يضمن توازنا بين الاستغلال الاقتصادي والحماية البيئية. ثالثا، توسيع نطاق المراكز القروية، باعتبارها فضاءات ملائمة لتدبير التوسع الحضري، والحد من آثاره السلبية. وتبرز هذه التوجيهات أن الدولة لم تعد تكتفي بمقاربة نمطية موحدة لتنمية المجالات، بل بدأت تبدي وعيا متزايدا بضرورة تجاوز منطق "التدخلات الجزئية" ومن تم فاعتماد على برامج التنمية الترابية القائمة على التكامل بين المجالين الحضري والقروي ضمن علاقة "رابح-رابح، يشكل مدخلا أساسيا لمعالجة والتقليص أو الحد من التفاوتات المجالية، كما أن التركيز على "المناطق الأكثر هشاشة" (الجبال، الواحات) يظهر وعيا بضرورة استهداف الفئات المهمشة جغرافيا، وهو ما يتوافق مع مبدأ "عدم ترك أحد خلف الركب" في أهداف 2030 للتنمية المستدامة.
رابعا: ترسيخ ثقافة النتائج واستثمار أمثل للتكنولوجيا الرقمية
يصر الخطاب الملكي على ضرورة اعتماد مقاربة تتبنى ثقافة النتائج في تدبير السياسات العمومية القائمة أساسا على تحديد الأهداف، وتتبع مؤشرات الأداء، وربط المسؤولية بالمحاسبة. فنجاح السياسات العمومية لا يقاس بعدد البرامج والمخططات، بل بمدى أثرها الملموس على الواقع المعيشي للمواطنات والمواطنين. ولهذا شدد الملك على وجوب الاعتماد على معطيات ميدانية دقيقة، واستثمار أمثل للتكنولوجيا الرقمية خصوصا وأن التحول الرقمي العميق، الذي شهده العالم، أسهم في تسريع اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة في عمليات بلورة السياسات العمومية وتنفيذها وتقييمها. وهو ما أتاح لصناع القرار أدوات جديدة لتحسين التخطيط، ودعم استهداف التدخلات العمومية، وتعزيز القدرة على التكيف مع التحولات المتسارعة في السياقات الوطنية والدولية. من جانب آخر تعمل السياسات العمومية التي تستثمر بشكل فعال التكنولوجيا الرقمية، على تعزيز التفاعل التشاركي مع المواطنين، بما يمكن من بلورة سياسات أكثر ملاءمة وفعالية في معالجة القضايا المجتمعية المعقدة. ويعد الذكاء الاصطناعي في هذا الإطار عنصرا محوريا، نظرا لاعتماده على أنظمة ذكية قادرة على التعلم الآلي، ومعالجة اللغة الطبيعية، وتحليل كميات هائلة من البيانات بشكل سريع وفعال، ما يفتح آفاقا جديدة أمام الحكامة العمومية الذكية والمبنية على الأدلة.
خامسا: مسؤولية جماعية لإنجاح المشاريع والإصلاحات الاستراتيجية
تضمن الخطاب الملكي العديد من الرسائل الموجهة إلى الحكومة والبرلمان والأغلبية والمعارضة، تدعو إلى تجاوز الحسابات السياسية الضيقة وتغليب المصلحة العليا للوطن والمواطنين. وقد أكد جلالته أن السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشرة ستكون حاسمة، ليس فقط لأنها ختامية في عمر الولاية، بل أيضا لأنها مفصلية في مصير عدد من المشاريع والإصلاحات الاستراتيجية. وهذا ما يستوجب، حسب الخطاب الملكي، تعبئة شاملة لكافة الطاقات والموارد، واستحضار قيم النزاهة، ونكران الذات، وروح الالتزام، بعيداً عن الشعبوية أو الاستغلال السياسوي للبرامج العمومية. كما يرسخ الخطاب الملكي مجددا مركزية المواطن في قلب السياسات العمومية، ويجعل من تحسين عيشه وتحقيق كرامته الغاية القصوى لكل تخطيط أو تنفيذ.
وعلى سبيل الختم، يمكن القول إن الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشرة تجاوز الإطار البروتوكولي لافتتاح دورة تشريعية جديدة، ليقدم خريطة طريق استراتيجية لإعادة توجيه السياسات العمومية، وفق منطق يرتكز على العدالة المجالية والاجتماعية، وفعالية الأداء المؤسساتي، وتحقيق الأثر الملموس على حياة المواطن. فالتحديات المطروحة تتطلب من صناع القرار، سواء على المستوى المركزي أو الترابي، تجاوز منطق التدبير التقليدي، واعتماد أساليب مبتكرة في التخطيط والتنفيذ والتقييم. فضلا على أن نجاح هذا التحول يبقى رهينا بوجود إرادة سياسية قوية، وتعاون مؤسساتي فعال، ومواطنة فاعلة وفعالة، تجعل من المواطن شريكا لا مجرد مستهدف في السياسات العمومية. وبذلك، يمكن اعتبار هذا الخطاب بمثابة دعوة إلى إرساء تعاقد سياسي وتنموي، يؤسس لمرحلة قادمة تراهن على الجودة، والفعالية والمشاركة، والعدالة الاجتماعية والمجالية، كركائز أساسية لتنمية مستدامة ومتوازنة تعزز مكانة المغرب كدولة صاعدة ومتضامنة.
عبد الرحيم بوزياني أستاذ باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكادير - جامعة ابن زهر