محمد الغيث ماء العينين: هل أعلن غوتيريش بداية التحول الأممي في قضية الصحراء المغربية؟

محمد الغيث ماء العينين: هل أعلن غوتيريش بداية التحول الأممي في قضية الصحراء المغربية؟ محمد الغيث ماء العينين
في السياسة، كما في التاريخ، ليست كل التقارير رمادية. فبعضها يحمل بين سطوره إشاراتٍ دقيقة على تغيّر الموازين، وتحولات الفهم داخل المؤسسات الدولية.
وتقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول الصحراء المغربية لسنة 2025، الصادر في نهاية شتنبر، واحد من تلك التقارير التي لا تُقرأ كوثيقة إدارية، بل كنصٍّ سياسي يعلن بداية تحوّلٍ في فلسفة الحياد الأممي ذاتها.
 
لقد فرض المغرب، عبر استقراره المؤسسي وحضوره التنموي في الأقاليم الجنوبية، واقعًا لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه.
وحتى الأمين العام، وهو الحريص عادة على التوازن اللفظي، تجنّب هذه المرة لغة التحفّظ، واختار أن يصف تطورًا ميدانيًا ذا بعد استراتيجي، كإنجاز طريق السمارة–موريتانيا، بلغةٍ أقرب إلى الإقرار منها إلى التحفّظ.
ذلك الطريق الذي يبلغ طوله 93 كيلومترًا شرق الجدار، ويمتد إلى الحدود الموريتانية، لم يُذكر بوصفه “خرقًا” أو “عملاً أحاديًا”، بل كممرٍّ مدني خالٍ من أي طابع عسكري.
وهذا، في قاموس الأمم المتحدة، ليس تفصيلًا لغويًا، بل تحوّل في زاوية الرؤية.
 
ففي تقارير ما قبل 2018، كانت أي بنية تحتية مغربية شرق الجدار تُدرج ضمن “الإجراءات الأحادية”، وكان الأمين العام يذكّر كل سنة بضرورة “الامتناع عن أي عمل من شأنه تغيير الوضع القائم”.
أما اليوم، فالبعثة لا ترى في هذه المشاريع سوى أنشطة مدنية تساهم في الاستقرار.
وهذا الفارق في اللغة يعادل، سياسيًا، اعترافًا ميدانيًا بشرعية المغرب الواقعية شرق الجدار، مادام وجوده هناك مدنيًا وتنمويًا لا عسكريًا.
ذلك هو التسامح الإيجابي الذي يميز تقرير هذه السنة: ليس انحيازًا، بل تكيّفًا مع الواقع، إذ تدرك الأمم المتحدة أن الجمود لم يعد خيارًا، وأن المغرب فرض واقعًا تنمويًا يصعب تجاوزه أو القفز عليه.
 
القرار 2440: نقطة التحول الخفية
لفهم هذا التحول، لا بد من العودة إلى سنة 2018، حين أصدر مجلس الأمن قراره الشهير 2440 الذي غيّر معجم النزاع ووظيفة البعثة معًا.
فمنذ ذلك التاريخ، لم تعد المينورسو “بعثة استفتاء”، بل أصبحت بعثة دعم للحل السياسي الواقعي والعملي والمتوافق عليه.
أي أن وظيفة الأمم المتحدة لم تعد إدارة الانتظار، بل تهيئة شروط الحل الممكن.
 
ولذلك، حين يربط الأمين العام في تقريره الحالي تمديد ولاية المينورسو بـ “دورها في منع التصعيد وتوفير بيئة مواتية للعملية السياسية”، فهو يترجم تلك الفلسفة الجديدة بحذافيرها.
فالقرارات اللاحقة كرّست هذه النقلة، بتكرارها شبه الحرفي لعبارات: “واقعي، عملي، دائم، ومقبول من الطرفين” — وهي ذات المفردات التي يستخدمها المغرب في توصيف مبادرة الحكم الذاتي.
بهذا المعنى، تحوّلت لغة الأمم المتحدة إلى صدى للمفردة المغربية نفسها، حتى وإن لم تُعلن ذلك صراحة.
 
أثر اللقاءات والضغوط الأمريكية
الولايات المتحدة، صاحبة القلم في ملف الصحراء داخل مجلس الأمن، مازالت اللاعب المركزي الذي يحرّك مفردات القرارات ويضبط نغمتها.
ومنذ اعترافها بسيادة المغرب سنة 2020، لم تتراجع واشنطن عن اعتبار الحكم الذاتي الحل الوحيد القابل للتطبيق.
وفي كواليس نيويورك، تمرّ الصياغات النهائية لتقارير الأمين العام بمشاورات دقيقة وغير معلنة مع ممثلي الدول الكبرى.
لذلك، يمكن القول إن بعض الفقرات التي تبدو “محايدة” في ظاهرها هي في الحقيقة رسائل مشفّرة بلغة دبلوماسية محسوبة.
 
فعندما يشيد التقرير بدور المينورسو في “تهيئة البيئة الملائمة للعملية السياسية”، ويذكّر بأن الحل يجب أن يكون “واقعيًا وعمليًا ودائمًا ومقبولًا من الطرفين”، فهو في الواقع يعيد إنتاج المعادلة الأمريكية-الفرنسية المشتركة التي تلخّص فلسفة الحل في ثلاثية بسيطة:
 
الاستقرار أولًا، التنمية ثانيًا، والحكم الذاتي هو الجسر الثالث نحو التسوية.
بهذه الصياغة الهادئة، يوازن الأمين العام بين ضغط واشنطن نحو الحسم وحذر الأمم المتحدة في الحفاظ على واجهة الحياد.
 
التوصية بالحوار: دعوة موجهة إلى الجزائر
في الفقرة 83 من التقرير، دعا الأمين العام المغرب والجزائر إلى “تجديد جهودهما الرامية إلى التعاون الإقليمي وتحسين العلاقات الثنائية”.
قد تبدو الجملة بروتوكولية، لكنها تحمل مضمونًا سياسيًا متقدمًا.
فالأمين العام استحضر في تقريره الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش، حين دعا جلالة الملك محمد السادس إلى حلّ توافقي لا غالب فيه ولا مغلوب، وإلى فتح صفحة جديدة مع الجزائر.
وبذلك، لم تكن توصية الأمم المتحدة صدفة، بل تعبيرًا عن التقاءٍ بين الرؤية الأممية والمبادرة الملكية.
 
إنها، في جوهرها، دعوة موجهة إلى الجزائر لا إلى المغرب.
فالمغرب أعلن استعداده للحوار بلا شروط، بينما ترفض الجزائر أي تواصل مباشر بذريعة “عدم كونها طرفًا في النزاع”.
ومن خلال هذه الإشارة، يحمّل التقرير الجزائر — بلغةٍ دبلوماسية لبقة — مسؤولية الانغلاق، دون أن يقول ذلك صراحة.
 
من الواقعية إلى الإشارات السياسية الجديدة
الجديد في تقرير 2025 ليس فقط استمرار نغمة الواقعية، بل ظهور إشارة متقدمة نحو مبادرة الحكم الذاتي.
لم يبلغ التقرير بعد مستوى التبنّي الصريح للمبادرة، لكنه يؤسس لهامش تبنٍّ ضمني متدرّج من خلال ثلاث مستويات دبلوماسية:
1. ربط الحلّ بصفاته الأربع: “واقعي، عملي، دائم، ومقبول من الطرفين” — وهي لغة تكاد تُعرّف جوهر مقترح الحكم الذاتي دون أن تُسمّيه.
2. توصية الأمين العام بالحوار المغربي–الجزائري، في انسجام مع الخطاب الملكي لعيد العرش الذي دعا إلى حلّ “لا غالب فيه ولا مغلوب”، وهي في جوهرها دعوة مهذّبة للجزائر كي تلتحق بمسار التوافق.
3. تجاهل متعمّد للقرارات الصادرة عن مجلس الأمن قبل سنة 2018، مقابل الاقتصار على القرارات 2440 (2018)، 2468 (2019)، 2494 (2019)، 2548 (2020)، 2602 (2021)، 2654 (2022)، 2703 (2023)، و2756 (2024)، والتركيز على “العملية السياسية التي يقودها المبعوث الشخصي”.
 
هذه العناصر مجتمعة تعبّر عن تبنٍّ أممي متدرّج للمقاربة المغربية دون إعلان صريح، أي اعتراف واقعي من دون بيان رسمي.
 
الجغرافيا الاستراتيجية: من المعابر إلى الموانئ
قد تكون الجغرافيا أبلغ من الخطابة الدبلوماسية.
فحين يُنجز المغرب طريقين ومعبرين، ويشيّد ميناءً بحجم الداخلة الأطلسي، فإنه لا يبني إسفلتًا ولا أرصفة فحسب، بل يعيد رسم الخريطة الاقتصادية للقارة.
• معبر الكركرات لم يعد مجرد نقطة عبور، بل شريان تجاري يمرّ عبره أكثر من 80% من المبادلات المغربية–الإفريقية.
• المعبر الجديد بين السمارة وموريتانيا يفتح ممرًّا ثانيًا للتنقل المدني ويعزّز تنويع المسالك التجارية.
• ميناء الداخلة الأطلسي يكرّس المغرب فاعلًا لوجستيًا عابرًا للقارات، يربط أوروبا بإفريقيا جنوب الصحراء وبأمريكا اللاتينية.
 
هذه المشاريع ليست بنى تحتية فقط، بل ترجمة عملية لسيادة هادئة، تجعل من الأقاليم الجنوبية جسر تواصل بين البحرين والقارتين.
وكلما توسعت هذه الشبكة، تقلصت المسافة بين الاعتراف السياسي والاعتراف الواقعي، لأن الجغرافيا حين تُعاد صياغتها تنطق بلغةٍ لا يمكن لأي قرارٍ أن يُنكرها.
 
من الحياد الوصفي إلى الواقعية الأممية
في الدبلوماسية، كما يثبت التاريخ، لا يكفي أن يُعترف بالحق، بل يجب العمل على أن يتحقق.
وتقرير الأمين العام لسنة 2025 يعلن — بلغةٍ متحفظة ظاهرًا وجريئة ضمنًا — أن الأمم المتحدة بدأت تنتقل من الحياد الوصفي إلى الواقعية الأممية: من تسجيل الوقائع إلى الاعتراف بمن يصنعها.
 
لقد أدركت المنظمة أن الحلّ لم يعد في البحث عن “صيغة مثالية”، بل في مرافقة حقيقة قائمة: المغرب يمارس سيادته على الأرض، ويبني، ويستثمر، ويُنمّي.
وفي عالمٍ متغيّر، لا تنتصر الشرعية بالشعارات، بل بالقدرة على تحويل الميدان إلى أفقٍ مشترك.
 
تقرير 2025 ليس إذن مجرّد وثيقة تقنية، بل مرآة زمن التحوّل المغربي داخل الأمم المتحدة.
ومن يقرأه بتمعّن، يدرك أن لغة الحل النهائي بدأت تُكتب بالفعل، ولكن هذه المرة بلغة الواقع لا البلاغة، وبمنطق البناء لا المناورة.
 
نحو القرار الأممي المقبل: ترسيخ الواقعية كمنهج
من المنتظر أن يعكس القرار الأممي القادم لمجلس الأمن هذا التحوّل التدريجي في نبرة المنظمة الأممية، من الحياد إلى الواقعية، ومن توصيف الوضع إلى إدارة الحل.
فالمؤشرات الدبلوماسية الراهنة — من اتساع دائرة الاعترافات الدولية إلى عودة الزخم الأمريكي–الفرنسي في التنسيق حول الملف — تدفع نحو تثبيت مبادرة الحكم الذاتي كإطار مرجعي وحيد للحل السياسي.
وفي هذا السياق، يُنتظر أن يأتي القرار القادم بلغةٍ أكثر وضوحًا في تأكيد “واقعية” المقاربة المغربية، مع التشديد على دور المينورسو في تهيئة البيئة السياسية والإنسانية للتسوية النهائية.
 
إن تقرير غوتيريش، بكل ما تضمّنه من دقة ومرونة، مهّد الطريق للقرار القادم ليكون أكثر صراحة في ترجمة التحول الأممي الجاري:
من الحياد السلبي إلى الاعتراف المتدرج بسيادة الواقع، أي بالسيادة المغربية التي لم تعد موضوعًا للنقاش، بل منطلقًا للحل.