أحمد الفرحان: 212 GenZ..الاحتجاج الشبكي في المغرب.. وعي سياسي أم وعي بالسياسة؟

أحمد الفرحان: 212 GenZ..الاحتجاج الشبكي في المغرب.. وعي سياسي أم وعي بالسياسة؟ أحمد الفرحان 

يكشف المشهد السياسي المغربي الراهن مفارقة تاريخية عميقة: فبينما تشكلت أجيال الحركات السياسية والحقوقية والنقابية منذ ستينيات القرن الماضي على قاعدة الصراع من أجل الدمقرطة وبناء مؤسسات التمثيل السياسي والمساءلة البرلمانية، من منظور سياسي يقوم على الصراع التاريخي من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة الفعلية؛ ظهر جيل شبابي رقمي جديد يطلق على نفسه رمز 212 GenZ يرى أن الفساد السياسي هو العائق الحقيقي أمام التنمية الاجتماعية، وأن المؤسسات السياسية لا يعوّل عليها لأن أغلبها أصبحت بدورها فاسدة. وهذا المنظور للسياسة يتلخّص في أن الجيل الشبابي الرقمي الجديد وفق مطالبه المعلنة لا يعترف بالمؤسسات السياسية التقليدية ولا يثق بالحكومة والبرلمان والأحزاب، ويرى في الملكية الضامن الوحيد لتحقيق مطالبه الاقتصادية والاجتماعية، من تشغيل وصحة وتعليم. إنّه يرى أن السياسة هي طلب فوري للخلاص الاجتماعي يسهر عليه رئيس الدولة وليس رئيس الحكومة.

1- من وعي الصراع إلى وعي الاختزال:

في زمن الحركات السياسية الديمقراطية التقدمية، كانت السياسة تُفهم كفعل تاريخي متراكم تحرّري في مواجهة الاستبداد والريع، وكصيرورة نحو بناء دولة الحق والقانون. أما في العصر الرقمي ينظر الجيل الشبكي إلى أن السياسة إجراءات تنفيذية تُختزل في النتيجة دون المسار، والمطلب دون الوسيلة.

إن السياسة التي كانت مجالًا للصراع، أصبحت مجالًا للمطالبة؛ والفعل السياسي الذي كان يمارس بالنضال التنظيمي المؤسس نظريا وميدانيا في المؤسسات والتنظيمات السياسية، أصبح يمارس بالنضال الشبكي المؤسس افتراضيا وميدانيا في واجهة المنصات الرقمية. وإذا كان الأول يتطلب بناء تعاقد سياسي بين السلطة والمجتمع، فإن الثاني يتطلب اختزال سلطة المؤسسات السياسية والاجتماعية في السلطة المطلقة الفاعلة.

2- اللازمنية السياسية: نسيان التاريخ بوصفه نسياناً للوساطة

يظهر، في هذا السياق، ما يمكن تسميته بـ"اللازمنية السياسية"؛ فجيل المنصات الرقمية يعيش حاضراً دائم الاتصال، سريع الإشباع. لا يرى الماضي إلا كعبءٍ، والمستقبل إلا كخدمةٍ ينبغي أن تتحقق فوراً.

لقد صار الزمن السياسي، بتعبير بول فيريليو (Paul Virilio)، زمن السرعة لا الصيرورة.
فما معنى "الانتقال الديمقراطي" بالنسبة إلى فاعل شبكي نشأ في بيئةٍ تُقاس فيها الاستجابة بالثواني؟
إنّ التاريخ هنا لا يُنسى فقط، بل يُستبدل بخوارزمية زمنية تختصر العلاقة بين السلطة والمجتمع في منطق "الطلب – الاستجابة"، لا في منطق "التمثيل – الصراع – التفاوض".

3- المفارقة السياسية: ممارسة السياسة من خارج السياسة

تبدو هذه المفارقة فريدة في التجربة المغربية: في الوقت الذي تتراجع فيه الثقة بالحكومة والأحزاب والنقابات، يرتفع منسوب الثقة بالملكية كفاعل مباشر في تحقيق المطالب الاجتماعية. إنها مفارقة بين رفض الوساطة السياسية وتقديس الوساطة الرمزية.
فالملك، بوصفه رمزاً للدولة، يُرى من طرف 212 GenZ كفاعل فوق السياسة، خارج الفساد الحزبي والبيروقراطي، قادر على تحقيق ما تعجز عنه الحكومة.

بهذا المعنى، يتحول الوعي السياسي من أفق المواطنة إلى أفق الرعاية (Paternalism)، أي من منطق الحقوق المدنية إلى منطق الحماية الأبوية. إنها عودة غير معلنة إلى ما يسميه غرامشي بـ"الهيمنة الأخلاقية-الثقافية"، حيث تستعيد السلطة شرعيتها لا من خلال الإكراه، بل عبر التماهي الرمزي مع مطالب المجتمع.

4- نقد الوعي التقني المحدود:

إنّ تنكّر هذا الجيل الرقمي لتاريخ الصراع السياسي والاجتماعي لا يعني فقط نقصاً في التكوين السياسي، بل يكشف عن تحول في بنية الوعي السياسي نفسه. فالشباب الذين لم يعايشوا تجربة القمع والاعتقال التعسفي والاختطاف والاغتيال وسنوات الرصاص، ولم يقرأوا عنها وعن تضحيات المناضلين في سبيل التحرر والعدالة الاجتماعية، لا يرون في السياسة إلا واجهة فاشلة لإدارة المصالح.

وهذا يكشف أن "سلسلة الذاكرة السياسية" منقطعة نتيجة سياسات التدجين والتجهيل التي مارستها البرامج التعليمية والسياسات التنموية التي فصلتهم عن حركية المجتمع السياسي والاجتماعي والحقوقي، إذ صار التاريخ السياسي والاجتماعي المغربي المعاصر أشبه بما يسميه بيير نورا(Pierre Nora) ب "مكان الذاكرة" أكثر منه "تجربة الذاكرة"؛ أي أنّ الماضي أصبح مجرد سرديات للتمجيد، وليس مرآة للحاضر يتم استثماره لبناء وعي حضاري بالدولة والمجتمع.

وهذا ما يجعل الوعي الجديد هشّا: فهو يتحرك بعاطفة المطالب دون جذور في تقاليد النضال. إنه وعيٌ شبكي، سريع الاشتعال وسريع الانطفاء، لا يراكم مكاسب، بل ينتج موجات من الغضب المتقطع.

5- من السياسة كتمثيل إلى السياسة كتعبير

من منظور فلسفة السياسة، ما يجري هو انتقال من السياسة كتمثيل (Representation) إلى السياسة كتعبير (Expression). حيث يمكن القول إن "السياسة كتمثيل" تقوم على الوساطة والمؤسسات والمفاوضات الطويلة. أما "السياسة كتعبير" تقوم على الفعل السياسي الذي يتحول إلى أداء رمزي مباشر في الفضاء الرقمي.

يرى هابرماس أن المجال العمومي يقوم على العقلانية التواصلية، لكن الجيل الشبكي يعيش عقلانية عاطفية، حيث الحجة لا تُقاس بصحتها بل بقدرتها على الانتشار. وبذلك يتحول الفعل السياسي من بناء الشرعية إلى بناء الترند (Trend).

6-الدرس التاريخي: السياسة بوصفها ذاكرة مشتركة

إنّ ما تكشفه تجربة 212 GenZ هو أن الديمقراطية ذاكرة اجتماعية ثقافية تقوم على مخيال السلطة الأبوية المستحدثة، وليست مؤسسات سياسية حداثية. فحين تُنسى مسارات الصراع السياسي، وتُختزل الدولة في شخص، وتُختزل المطالب السياسية والاجتماعية في أفعال آنية، تصبح الحاجة إلى تربية سياسية جديدة ضرورية: تربية تعيد وصل الأجيال بتاريخها، وتُعيد تعريف السياسة كمسؤولية مشتركة لا كطلب من فوق.

فمن دون هذه الذاكرة، لا يمكن لأي جيل أن يبني انتقالاً ديمقراطيّا، لأن الانتقال ليس حدثا، بل وعياً بالتاريخ الوطني لبناء الدولة الحديثة كمشروعٍ لم يكتمل بعد.

خاتمة: بين الحنين والاختزال

لقد أيقظنا الجيل الشبابي الرقمي 212 GenZ من سباتنا الدوغمائي مفاده أن الفعل السياسي لا يتحقق إلا في المؤسسات السياسية، وكشف لنا أن هذا الجيل الرقمي ليس عدوّاً للتاريخ، بل نتاج له؛ إنه ابن عصر السرعة. والسرعة في السياسة أن تتحقق المطالب بقرار سيادي مطلق.

لكن التاريخ عنيد، ويُذكّرنا بأن السياسة لا تُختزل في مطلب، ولا تُنجز بقرار واحد، بل تُبنى عبر جدلٍ طويل بين الدولة والمجتمع، بين المطالب والمؤسسات، بين الذاكرة والتجربة.
ولعل التحدي الفلسفي والسياسي اليوم هو أن نعيد وصل هذا الجيل بـ"الزمن الطويل" للسياسة، كي لا تتحول الديمقراطية إلى مجرد موجة رقمية أخرى، بل إلى مشروع عيشٍ مشتركٍ مستمر في الزمن.

 

أحمد الفرحان      
استاذ التعليم العالي في الفلسفة، 
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة ابن طفيل، القنيطرة.