سفيان الداودي: حين يضيع شباب المغرب بين الفراغ والبحث عن الذات

سفيان الداودي: حين يضيع شباب المغرب بين الفراغ والبحث عن الذات سفيان الداودي
في زمن يتسارع فيه الإبداع والتكنولوجيا، يعيش شباب المغرب فراغا قاتلا لا تُملؤه المدرسة، ولا الأسرة، ولا المؤسسات التي وُجدت يومًا لتؤطّر الطفولة وتحتضن الحلم.
لم يعد الوقت الحر مجالا للنمو والاكتشاف، بل صار زمنًا للهروب من واقع بلا أفق.
 
جيل جديد، رقمي الهوية ومرقمن السلوك في نفس الوقت، يتحدث لغات العالم، لكنه يعيش انفصالا عن الواقع المحلي، عن الأسرة و المدرسة، وعن مؤسسات كانت بالأمس مدارس لتأطير والمواطنة.
 
أزمة الوقت الحر اليوم ليست أزمة تسلية، بل أزمة تربية وعدالة اجتماعية، تستدعي مشروعا وطنيا جديدا يعيد للشباب مكانته في قلب التنمية والسياسات العمومية
 
أولا: شباب بلا مدرسة ولا تأطير وبدون أفق
 
يعتبر الحرك التعليمي حول الكرامة لحظة مفصلية في كشف هشاشة المنظومة التعليمية والتربوية، بعد أن ضاعت دورة دراسية كاملة بسبب سوء تدبير ملف القانون الأساسي لهيئة التعليم.
 
وجد الآلاف من التلاميذ أنفسهم خارج الفصول الدراسية، وبالتالي خارج الزمن المدرسي، وخارج أي تأطير تربوي أو نفسي أو مهني.
 
لم تفكر الدولة في استعجال حل لاساتذتهم الذين تركتهم يعيشون احتقانا غير مسبوق ولا هي ساهمت في تدبير وقت فراغهم ، ولا في برامج للدعم أو التعويض، فكان الفراغ أرضا خصبة للإدمان الرقمي الذي انطلقت ارهاصاته منذ الحجر الصحي وكذا لتعاطي المخدرات والانحرافات السلوكية...
 
هكذا أصبح الوقت الحر أزمة وطنية لا تقل خطورة عن البطالة أو الهدر المدرسي.
 
ثالثا: إرهاصات الأزمة: عنف وشغب وانفلات اجتماعي
 
ما نراه اليوم في شوارعنا وأحيائنا الشعبية خصوصا من تشرميل، مخدرات، كريساج ... ومن انخراط لبعض المراهقين والشباب في مواجهات دامية، ليس إلا الوجه العاري لأزمة الوقت الحر.
 
أحداث عاشوراء بسلا، وأحداث الفنيدق وشغب الملاعب ، كشفت بوضوح هشاشة البنية التربوية وضعف آليات الضبط الأسري والاجتماعي.
 
فالشباب الذي يُترك نهبا للفراغ، قد لا يجد أمامه سوى العنف كوسيلة للتعبير أو للوجود نتيجة إحباط وعدم اعتراف مجتمعي.
 
رابعا : مؤسسات التأطير والمواكبة فقدت البوصلة
 
- الجمعيات التربوية : تم تهميشها وإضعافها مؤسساتيا ومشاريعها اليوم أصبحت بعيدة عن انتظارات الطفولة والشباب.
 
- التنظيمات السياسية والنقابية : فقدت امتدادها الجماهيري وأضحت بلا جاذبية ومشكوك في مصداقيتها بسبب الهوة بين الشعارات في البرامج والممارسة عند تحمل المسؤولية
 
- دور الشباب: فبين مغلق أو متهالك، كما ان العمل التربوي يعيش أسوأ مراحله منذ أكثر من عقدين لكون التكوينات لا تتلاءم مع انتظارات أطفال وشباب اليوم.
 
- المبادرات الوزارية: باتت قوالب جاهزة لا تستمع للشباب ولا تُشركهم في تصميم البرامج ولعل الجامعة الصيفية لخير دليل.
 
 الحكومات المتعاقبة:
بعد دستور 2011: عدم تفعيل الفصل 33 من دستور 2011، الذي ينص على إشراك الشباب في الحياة العامة، فما زال حبرا على ورق، والمجلس الاستشاري للشباب والحياة الجمعوية لم يرَ النور بعد.
 
خامسا: البدائل من النقد إلى البناء المؤسسي
 
1- مدارس السوسيو-تربوي للطفولة والشباب
 
نقترح مشروعا وطنيا لإنشاء مركبات تربوية متكاملة تضم:
 
-ملاعب رياضية ومسابح مغطاة.
 
-قاعات للفنون والموسيقى والمسرح والرقص الإيقاعي.
 
-مختبرات علمية وأولمبياد رياضية.
 
-قاعات لتعلم اللغات الحية (الإنجليزية، الإسبانية، الألمانية، الصينية).
 
-أوراش للمهن المطلوبة في سوق الشغل (النجارة، الصباغة، الصناعات التقليدية، البرمجة، وصناعة الألعاب الإلكترونية...).
 
-مقهى أدبي وفضاءات إيكولوجية تربوية.
 
تمنح هذه المدارس شواهد معترف بها في الأنشطة الموازية، في إطار مشروع وطني لتنمية الذكاءات المتعددة للطفولة والشباب.
 
ويُفترض أن تتكامل فيها وزارتا التعليم والشباب عبر برامج نقل وتأطير بجداول حصص زمنية واضحة.
 
2- إحداث معهد وطني لتكوين المنشطين التربويين
 
مدارس الانشطة الموازية تحتاج الى تكوين مهني لمدة ثلاث سنوات يمنح دبلوم “منشط تربوي معتمد"
 
-إعداد كفاءات جهوية لتأطير الحياة المدرسية والمخيمات والمركبات السوسيو-تربوية.
 
-جعل “المنشط” مهنة قائمة الذات ومعترف بها داخل الوظيفة التربوية الوطنية.
 
3- استعادة هوية التربية الشعبية والفكر الكشفي
 
-إعادة الاعتبار للمخيمات الصيفية والربيعية كفضاءات للتربية على القيم والتضامن والمواطنة.
 
-ترسيخ الفكر الكشفي والتربية الشعبية كمرجعيتين تربويتين وطنيتين تقدميتين.
-إعادة إحياء مخيمات الأطلس المتوسط كمدارس حقيقية للتأطير الشبابي والتربية البيئية.
-إحياء مستشفى بنصميم للأمراض الصدرية بمنطقة الاطلس المتوسط في إطار رؤية صحية جديدة ليكون نموذجا لربط الصحة بالطبيعة ومنسجما مع المطالب الشبابية.
 
4- فتح فضاءات الحوار والفهم المتبادل
-إحداث مجالس تواصل داخل الثانويات تجمع التلاميذ والأساتذة والأخصائيين النفسيين.
 
-خلق مجالس للتنشئة الاجتماعية: تضم الآباء والأطر التربوية لمتابعة التوصيات التربوية.
 
-احتضان شباب الملاعب (Les Ultras) ضمن مخيمات صيفية مخصصة، والاستماع إليهم بدل وصمهم.
 
-تنظيم مخيمات موضوعاتية للشباب الجامعي داخل المدارس العليا، بتنسيق مع مكاتب الطلبة (BDE)، ومخيمات دولية لتبادل الخبرات والانفتاح.
 
5- إصلاح مؤسسات الوساطة والتعامل مع الاحتجاجات الشبابية
 
-تجديد هياكل الجمعيات والنقابات والأحزاب، وتثمين كفايات الشباب داخل التنظيمات بغية إعادة بناء الثقة واستعادة الدينامية الجماعية والمؤسساتية التي تشرك الشباب في اتخاذ القرار.
 
-مراجعة شاملة للقانون التنظيمي للإضراب، الذي صُمم أساسا للتعامل مع الشغيلة المؤطرة نقابيا، مع إدراك أن جيل Z اليوم يؤطر قراراته عبر منصات رقمية مثل Discord وليس عبر الهيئات المؤسساتية التقليدية.
 
-ضرورة إعادة طرح القانون على طاولة الحوار الوطني لضمان توافقه مع واقع الشباب الحالي، مع توجيه وتكوين رجال الأمن حول كيفية التعامل مع الاحتجاجات السلمية، سواء المرخصة أو غير المرخصة، بما يحمي حق الشباب في التعبير ويجنب التصعيد.
 
6- المجلس الأعلى للشباب والحياة الجمعوية
 
ضرورة تفعيل هذا المجلس كآلية دستورية دائمة، لا كشكل رمزي أو موسمي.
 
تمثيلية حقيقية للشباب تشمل:
 
-القيادات الطلابية والشبابية.
 
-قيادات الأحزاب والنقابات.
 
-ممثلي Les Ultras.
 
-نخب المحتوى الرقمي والإعلام الشبابي.
 
-ممثلي التلاميذ داخل الثانويات التأهيلية.
 
-شبيبة المنظمات التربوية التاريخية المنضوية تحت لواء الجامعة الوطنية للتخييم.
 
-أن يكون المجلس فضاء ديمقراطيًا للحوار الوطني حول قضايا الشباب، ومختبرا لتصميم السياسات العمومية الشبابية، بعيدًا عن الوصاية أو الإقصاء.
 
7- تقنين العمل التطوعي والتحفيز عليه
 
-إصدار قانون تنظيمي يؤطر التطوع ويضمن الحقوق.
 
-تحويل التطوع إلى مسار مهني وتربوي معترف به.
 
-إدراج التجربة التطوعية ضمن معايير التقييم الأكاديمي والمهني.
 
8- بديل إعلامي مواطن وقريب من المجتمع
 
-إحداث قناة عمومية للشباب والطفولة تواكب صناعة المحتوى الرقمي وتفتح حوارات مع المؤثرين.
 
-إعلام عمومي يُعلي قيم المواطنة والتفكير النقدي بدل الترفيه الاستهلاكي السطحي.
 
9- مراكز أحياء متعددة الوظائف
 
-برامج لمحاربة الإدمان والمخدرات.
 
-تكوين مهني سريع وإدماج اقتصادي للشباب في وضعية هشاشة.
 
-شراكات مع الجماعات الترابية والمقاولات لإعادة إدماج الفئات الهشة.
 
هذه المراكز ستكون بمثابة رادارات اجتماعية لرصد الأزمات وحماية الشباب من السقوط في الهشاشة.
 
سادسا : نحو مشروع وطني جديد للشباب
 
 
إن أزمة الوقت الحر ليست من الكماليات، بل قضية عدالة اجتماعية تمس حق الشباب في التربية، في الحلم، وفي المشاركة.
 
الشباب ليسوا خصوما لنا بقدرما هم شركاء في بناء الوطن ، واحتضانهم لا يكون بالوصاية أو القمع، بل بالاستماع، والإشراك، والإبداع...
 
التربية الشعبية، الفكر الكشفي، والإعلام المواطن، في نظرنا ثلاث ركائز يمكن أن تشكل معا ميثاق نهضة جديدة تُعيد للوقت الحر قيمته، وللشباب مكانته في مشروع وطني تقدمي يؤمن بأن المستقبل يبدأ الآن.