إن الحديث عن تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة لم يعد مجرد طرح سياسي أو خياراً مطروحاً على الهامش، بل أصبح اليوم ضرورة وطنية قصوى، يفرضها الواقع الصعب الذي تمر به الجزائر. فالمشهد العام يتسم بانسداد سياسي متواصل، واحتقان اجتماعي يتصاعد، وتآكل في ثقة المواطن بمؤسسات الدولة. وفي خضم هذا المشهد المضطرب، كنّا نحن أول من دعا بوضوح وشجاعة إلى ضرورة تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة، باعتبارها المخرج الوحيد لإعادة الشرعية للشعب وفتح آفاق جديدة أمام الدولة، بل واعتبرناها البوابة الحقيقية نحو الجمهورية الثانية التي يحلم بها الجزائريون.
الأزمة ليست اقتصادية أو إدارية فحسب، بل سياسية عميقة تعكسها صراعات داخلية حادة: صراع الأجنحة داخل الجهاز السياسي والاداري، وتناحر رؤوس المؤسسة العسكرية على تأثير القرار، إلى جانب سلسلة حكومات فاشلة عجزت عن تقديم حلول واقعية للمشاكل اليومية للمواطن. هذه التحركات الداخلية لا تخلق قيادة وطنية موحّدة، بل تنتج حالة تشتت في السلطة تجعل البلاد عرضة للانزلاق إلى مزيد من الضعف والارتباك.
في الأشهر الأخيرة تبيّن أن المشهد يزداد سوءاً: صراعات حول المواقع وصراع نفوذ بين أجنحة متناحرة، وقرارات مؤقتة لا تستند إلى خطة إصلاحية واضحة، وحكومات متعاقبة تعيد إنتاج نفس الأخطاء أو تفشل في تنفيذ البرامج. المواطن الذي يشاهد هذا الانقسام لا يطمئن لحال المؤسسات، بل يشعر أن من يدير شؤون البلاد مشغول أكثر بالصراع الداخلي منه بخدمة المواطنين.
ولتكون واضحة الرؤية: دعوتنا إلى انتخابات رئاسية مسبقة لم تكن مجرد موقف تكتيكي، بل كانت قراءة مبكرة لحالة الانقسام الداخلي وخطورة بقاء المؤسسات بلا شرعية قوية. لقد كنا أول من نبه إلى أن التأجيل والمماطلة لن يحلا الأزمة، وأن الحلّ يكمن في استرجاع تفويض الشعب عبر صناديق الاقتراع.
وحتى لا تبقى الدعوة مجرد كلام، نؤكد بوضوح أن تنظيم هذه الانتخابات يجب أن يتم في إطار مستقل تام: لن تكون تحت تصرّف السلطة الحالية، ولا يصح أن تتحكم فيها أجنحة داخلية أو شبكات نفوذ تابعة لهيئات الحكم القائمة. يجب أن تتمّ الانتخابات تحت إشراف هيئة انتخابية حقيقية ومستقلة، وبضوابط شفافة للمراقبة الوطنية والدولية، تضمن نزاهة العملية وحياد المؤسسات المسؤولة عن تنظيمها.
تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة بنزاهة وشفافية هو المدخل لبداية إصلاح جوهري. إنه يتيح تجديد النخب السياسية وتشكيل حكومة تحظى بتفويض شعبي واضح، قادرة على الشروع في إصلاحات اقتصادية واجتماعية جريئة، ومكافحة الفساد، وإصلاح الأجهزة الأمنية والإدارية بحيث تصبح خادمة للمصلحة العامة لا ساحات لصراعات النفوذ.
الخيار أمام الجزائر واضح: إمّا الاستمرار في لعبة الأجنحة والصراعات الداخلية التي تنهك البلاد وتزيد من فقدان الشرعية، أو اتخاذ قرار شجاع بفتح المجال أمام الشعب ليقول كلمته ويعيد تأسيس عقد سياسي جديد — الجمهورية الثانية — تقوم على التداول السلمي على السلطة، والمؤسسات القوية، والعدالة الاجتماعية.
لقد قلناها منذ البداية، ونكرّرها اليوم: لا حلّ إلا بالعودة إلى الشعب. تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة حقيقية، لا خاضعة لتصرفات السلطة الحالية، هو السبيل الوحيد لإعادة الثقة وإطلاق مسار إصلاحي حقيقي يضع الجزائر على طريق الاستقرار والكرامة.