ما هي أبرز أنواع الانتهاكات خلال فترة الاستعمار الإسباني في شمال المغرب وفي أقاليمه الجنوبية؟
حين نتحدث عن الحِقبة الاستعمارية الإسبانية في الريف المغربي والصحراء، فإننا لا نتناول مجرد فترة تاريخية عابرة، بل نغوص في ذاكرة مثقلة بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم استعمارية لا تسقط بالتقادم. لقد جاء الاستعمار الإسباني، كما غيره من المشاريع الكولونيالية، محمّلاً بخطاب «الحماية» و«التحديث»، لكنه في العمق ارتكز على منطق السيطرة، الاستغلال، وتفكيك النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات المحلية.
من أبرز هذه الانتهاكات التي طبعت وجوده في الريف والصحراء، القمع العسكري واستخدام أسلحة محرّمة دولياً.
في الريف، اعتمدت إسبانيا سياسة الأرض المحروقة واستخدمت الغازات السامة ضد المدنيين إبان حرب الريف في عشرينيات القرن الماضي، وهو ما خلّف آثاراً صحية واجتماعية ما تزال حاضرة إلى اليوم. هذه الممارسات تدخل في خانة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
خلال حرب الريف في عشرينيات القرن الماضي، اعتمدت إسبانيا سياسة الأرض المحروقة ولجأت إلى استخدام الغازات السامة ضد المدنيين، ما خلّف آثاراً صحية واجتماعية ما تزال حاضرة إلى اليوم، وهي ممارسات تندرج بوضوح ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. هذا الملف لا يزال مطروحاً في النقاش السياسي والأكاديمي داخل إسبانيا، حيث هناك أصوات في المشهد السياسي والثقافي الاسباني تدعو إلى الاعتراف بالمسؤولية التاريخية وجبر الضرر، في مقابل رفض قاطع من طرف قوى اليمين التي تعتبر الخوض فيه تهديداً «للوحدة الوطنية».
من المهم كذلك التمييز هنا بين الدولة الإسبانية ككيان سياسي تحمّل مسؤولية تلك الانتهاكات، وبين الشعب الإسباني الذي لم يكن كتلة واحدة في دعمه للحرب. على العكس من ذلك، فقد شهدت كتالونيا على سبيل المثال احتجاجات واسعة في تلك الفترة، نددت بالعدوان على الريف وباستخدام أسلحة محرمة دولياً، وهو ما يعكس أن هناك داخل المجتمع الإسباني من رفض منذ البداية تلك الممارسات وطالب بوقفها.
كيف أثرت هذه الانتهاكات على حياة الساكنة على المدى الطويل؟
في الريف كما في الصحراء، انخرط الاستعمار الإسباني في نهبٍ ممنهج للثروات الطبيعية، حيث استحوذ على الأراضي الخصبة والمراعي الواسعة، واستغل بشكل مكثف المناجم الغنية مثل مناجم الحديد في ويكسان بالريف والفوسفاط في بوكراع بالصحراء، إضافة إلى الثروات البحرية. وقد وُجهت هذه الموارد لخدمة الشركات الإسبانية ومصالحها الاقتصادية، فيما حُرم السكان الأصليون من حقهم المشروع في تنمية مناطقهم والسيادة على خيراتهم.
بالتوازي مع هذا الاستغلال الاقتصادي، سعى الاستعمار الإسباني إلى تكريس فصل الصحراء عن باقي المغرب والترويج لهوية مصطنعة منفصلة عن الامتداد المغربي التاريخي الذي كان يجمع هذا التنوع الجهوي والثقافي في إطار واحد، ذلك بعد فشله في ضم الصحراء بشكل مباشر إلى إسبانيا عبر تعيين نواب صحراويين داخل ما كان يسمى بالكورطيس الإسباني «البرلمان»، في مسعى لإضفاء شرعية شكلية على وجوده الاستعماري.
كما لا يمكن تجاهل ما عمدت إليه السلطات الإسبانية من تجنيد شباب من المناطق الخاضعة لنفوذها في حربها الأهلية سنة 1936 والتغرير بهم ضدا على ظهير سلطان المغرب الشرعي محمد بنيوسف الذي شجب ومنع هذا المشاركة التي تركت آلاف من الضحايا شاركوا في حرب لا تعنيهم ..
إن قراءة هذه الحقبة اليوم، في ضوء لغة الحقوق، لا بد أن تربط الماضي بالحاضر. فمساءلة إسبانيا عن هذه الجرائم ليس فقط واجباً أخلاقياً وتاريخياً، بل هو حق للضحايا وذويهم، وهو أيضاً مدخل لتحقيق مصالحة شاملة مع الذاكرة الاستعمارية. فالتجارب المقارنة عبر العالم، من أميركا اللاتينية إلى إفريقيا، تؤكد أن العدالة الانتقالية لا تكتمل إلا باعتراف الدولة المستعمِرة بمسؤوليتها التاريخية، والاعتذار الرسمي، وجبر الضرر الجماعي والفردي.
كيف تعاملت السلطات الإسبانية آنذاك والآن مع هذه الجرائم؟
السلطات الإسبانية آنذاك اختارت منطق الإنكار والتبرير بدل الاعتراف. خلال الحقبة الاستعمارية، لم يُفتح أي تحقيق جدي في الجرائم التي ارتُكبت في الريف أو الصحراء، بل اعتُبرت تلك الأفعال جزءاً من «الضرورات العسكرية» أو «مقتضيات التمدين»، وهو خطاب كلاسيكي لتبرير العنف الكولونيالي.
أما اليوم، فما زال الموقف الإسباني يتأرجح بين الصمت والانتقائية. فحين يتعلق الأمر بانتهاكات تاريخية ارتُكبت في بلدان أخرى، نجد أن إسبانيا والغرب عموماً يرفعان شعارات المحاسبة والعدالة الانتقالية، بل ويطالبان باعترافات وتعويضات. لكن حين تُطرح الجرائم التي ارتكبتها إسبانيا نفسها في الريف أو الصحراء، يسود الصمت أو المراوغة. وهذا هو منطق الكيل بمكيالين الذي غالبا ما يطبع الموقف الغربي ـ أعني بالدرجة الأولى الدول وليس الشعوب ـ، منطق الدفاع عن حقوق الإنسان عندما يخدم مصالحه، وتجاهلها حين تعني مواجهة تاريخه الاستعماري.
إن الاستمرار في الإنكار لا يمحو الجراح، بل يُكرسها. والمصالحة الحقيقية مع الذاكرة الاستعمارية تمر عبر اعتراف رسمي بالجرائم، تقديم اعتذار صريح، والانخراط في مسار جبر الضرر. بدون ذلك، يبقى خطاب إسبانيا حول العدالة وحقوق الإنسان ناقصاً و مَعطوباً.
هل هناك محاولات لإصلاح جراح هذه الجرائم أو لتعويض الضحايا حتى اليوم؟
إلى اليوم لم تقم إسبانيا بأي مبادرة جدية للاعتراف أو جبر الضرر بخصوص جرائمها في الريف أو الصحراء. لم يُسجَّل اعتذار رسمي، ولا تعويض للضحايا أو أحفادهم، رغم المطالبات المتكررة من المجتمع المدني والباحثين. ما يوجد هو مجرد صمت رسمي وانتقائية سياسية، تعكس استمرار منطق الإنكار وتجاهل الذاكرة الاستعمارية.، وهذا يضع على عاتق إسبانيا مسؤولية أخلاقية وقانونية واضحة للاعتراف بماضيها الاستعماري وجبر الضرر من أجل إنصاف الضحايا، ومن أجل تطوير علاقاتها مع دول الجوار الجنوبي، وفي مقدمتهم المغرب.
ما هو دور المجتمع الدولي في تسليط الضوء على هذه الجرائم ومحاسبة المسؤولين؟
دور المجتمع الدولي في تسليط الضوء على الجرائم الاستعمارية ومحاسبة المسؤولين يظل محدودًا، لأن ما يسمى بـ «المجتمع الدولي» في معناه الرسمي، أي الدول والمؤسسات، يبقى رهينًا لموازين القوى والمصالح الاستراتيجية، أكثر من كونه تجسيدًا لقيم العدالة والإنصاف. لذلك غالبًا ما تُهمَّش قضايا الشعوب المستعمَرة أو تُوظَّف بشكل انتقائي بحسب ما يخدم مصالح القوى الكبرى.
أما المجتمع الدولي بمعناه الواسع، أي الرأي العام والشعوب، فهو مجال أكثر خصوبة لإثارة الوعي بهذه الجرائم، لكنه هش بدوره إذا لم يجد من يغذيه بالمعطيات الدقيقة والسرديات المُقنعة. هنا يبرز دور المغرب ونخبه في إطلاق حملة تواصلية ممنهجة، تتجاوز منطق رد الفعل لتبني خطابًا مدروسًا ينتقي أدواته بعناية، ويخاطب المواطن الغربي بلغته ومرجعياته، مع إعطائه مساحة مستقلة عن حكامه.
هذه الحملة ينبغي أن تهدف إلى تصحيح الصورة النمطية المتبادلة، وإعادة الاعتبار للتاريخ المشترك من زاوية إنسانية وحقوقية، بما يسمح بترسيخ تطورالعلاقات بين الضفتين، علاقات تقوم على الندية والاعتراف بالمسؤولية التاريخية، بدل الاستعلاء أو التجاهل. ورغم التحسن الكبير في العلاقات بين المغرب وإسبانيا في الوقت الراهن، فإن البناء على هذا التحسن يتطلب شجاعة في مواجهة الماضي وابتكار آليات جديدة للتواصل مع المجتمعات الغربية، حتى يتحول الرأي العام فيها إلى قوة ضغط لصالح العدالة والإنصاف والتعايش السلمي والتعاون
..
كيف ترى تأثير هذه الحقبة الاستعمارية على العلاقات بين المغرب وإسبانيا اليوم؟
تأثير الحقبة الاستعمارية ما زال يلقي بظلاله على العلاقات المغربية ـ الإسبانية إلى اليوم. فغياب مصالحة حقيقية مع الماضي يجعل كل أزمة سياسية بين البلدين تستحضر الذاكرة الاستعمارية بشكل مباشر أو غير مباشر. لكن المشكلة الأعمق تكمن في قصور النخب الإسبانية، سواء الحزبية أو المدنية أو حتى الأكاديمية، عن تطوير قراءة جديدة للمغرب. فما يزال الكثير منها أسير منطق كولونيالي قديم، ونظرة متعالية ترى المغرب من زاوية «المجال الحيوي» أو «الجوار المقلق»، بدل أن تتعامل معه كشريك ندّي ومتعدد الأبعاد.
هذا القصور يظهر جليا في ضعف الدبلوماسية الحزبية والمدنية الإسبانية في الانفتاح على المجتمع المغربي، مما يجعل الخطاب عن المغرب موجهاً غالباً من مدريد نحو أوروبا أكثر مما هو موجه إلى الرباط.
كذلك نلاحظ استمرار القراءات التقليدية ذات الطابع الأفريقاني أو الكولونيالي، حيث يُختزل المغرب إما في مشكل الهجرة أو في ملف الصحراء، دون وعي بعمق تحوّلاته الداخلية ومكانته الإقليمية.
في مقابل هذه المقاربة اليمينية للعلاقة مع المغرب، نلاحظ تأثير مرجعيات يسار الحرب الباردة، حيث ما تزال بعض الأوساط اليسارية الإسبانية أسيرة لخطابات قديمة تعتبر المغرب مجرد نظام محافظ يواجه «حركات تحرر»، متجاهلة أن الواقع تغير وأن المغرب اليوم فاعل مركزي في قضايا الأمن، الاقتصاد والهجرة.
بمعنى آخر، إسبانيا الرسمية والمدنية لم تُنجز بعد قطيعة معرفية وثقافية مع الماضي الاستعماري. وهذا ما يجعل العلاقة مع المغرب متذبذبة، رهينة سوء الفهم وقلة الثقة، بدل أن تكون شراكة متوازنة تقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف بالذاكرة.
ومع ذلك، فإن هذه الأعطاب التاريخية والسياسية لا ينبغي أن تُرى كحاجز أمام الأمل في مستقبل أكثر إنصافًا وعدالة في العلاقة بين المغرب وإسبانيا، بل كدعوة لتجاوزها وتحويلها إلى أرضية لتفاهم جديد. فمصير البلدين وأمنهما المشترك يفرضان تعزيز جسور الثقة والتعاون، في أفق قادم واعد، محطته الأولى والمهمة ستكون التنظيم المشترك لكأس العالم سنة 2030، كرمز لإرادة البناء والتلاقي بدل الانقسام والتباعد.