نعيمة بنعبد العالي: راشومون.. الحقيقة المتشظية وتعدد الروايات والنظرات

نعيمة بنعبد العالي: راشومون.. الحقيقة المتشظية وتعدد الروايات والنظرات نعيمة بنعبد العالي

حين قدّم أكيرا كوروساوا فيلم راشومون عام 1950، بدا وكأنه لا يروي جريمة، بل يفتح أبوابًا على لغز الوجود نفسه. المطر ينهمر بلا توقف، البوابة المهدّمة تستقبل المارة كجدار أطلال، والغابة الكثيفة تخفي في أحشائها فعلاً غامضًا: اغتصابًا وقتلاً. أربعة شهود يتناوبون على رواية الحادثة: قاطع الطريق، الزوجة، الزوج المقتول عبر وسيط روحي، ثم الحطاب. كل شهادة تدّعي الحقيقة المطلقة، لكن تداخلها يكشف أن الحقيقة ليست وحدة، بل تبعثر متعدّد يتوزّع بين الروايات والنظرات. ليست الغاية أن نصل إلى النسخة الصحيحة، بل أن ندرك أنّ الحقيقة لا تسكن التطابق بل تتجلى في وعي الإنسان بتشظيها.

 

 قد تتحدى الكتابة السينمائية واقعا مغمورا

الغابة في راشومون فضاء أسطوري قبل أن تكون موقعًا للجريمة. أشعة الشمس تتفتت بين الأغصان، الظلال تتكرر، المسار يتحوّل إلى متاهة. الطبيعة نفسها تدخل في لعبة التعدد، وكأنها تهيئنا لفقدان الحقيقة. هذا يذكّرنا بالمتاهة الإغريقية حيث ضاع ثيسيوس قبل أن يواجه المينوتور: المكان نفسه كان امتحانًا، يضلل قبل أن يكشف. وفي الثقافة العربية، نجد الصدى في التيه الصحراوي: فقدان الطريق ليس مجرد ضياع، بل تجربة وجودية، تجعل الإنسان يواجه ذاته وحدها. الغابة إذن ليست خلفية محايدة، بل صورة رمزية لتفكك الحقيقة: الطبيعة مكسورة، فما بالك بالرواية الإنسانية؟

 

يستعمل كوروساوا عدة تقنيات سينمائية ليدخلنا في قلب هذا التشظي :

 

تعدد الرواة وبنية القصة

 

 الراوي غير الموثوق

 التقطيع البصري والمونتاج

 الضوء والظلال

 الصوت والموسيقى

 الإطار الحاضر

 

 الروايات متعارضة فيما بينها و مع نفسها – أصوات المرايا

قاطع الطريق، الزوجة، الزوج الميت، الحطاب. كل راوٍ يعرض حكايته كأنها الوحيدة الصحيحة. لكن الروايات تتقاطع وتتصادم: الحقيقة لا تسكن أيًّا منها، بل تتولد من انكسارها جميعًا في وجه بعضها. في الأساطير الإغريقية، كان الكورس (الجوقة) يعكس تعدد الأصوات في التراجيديا، يعلّق دون أنيمنح جوابًا نهائيًا. وفي التراث العربي، نرى المشهد في ألف ليلة وليلة: القصة الواحدة تُروى عدة المرات، وكل راوٍ يعيد تشكيلها بحسب حاجته، كأن الحكاية كائن حيّ يتبدل باستمرار، فكلما قصّت شهرزاد حكاية، ولّدت أخرى، حتى صار الليل نفسه مرآة لتشقق الحكايات.

 

هذا التشظي السردي نلمسه أيضًا في الأدب العالمي. ففي الصخب والعنف (Le Bruit et la fureur) لويليام فوكنر، نتابع مأساة عائلة كومبسون عبر أربعة أصوات مختلفة، كل صوت يقدّم زمنه ورؤيته الخاصة، دون أن يكتمل أي منها بمفرده. كما في راشومون، الحقيقة عند فوكنر ليست ما حدث، بل كيفية روايته: أصوات متنافرة، متداخلة، يضيّع القارئ معها الطريق لكنه يكتشف أن الضياع نفسه هو الحقيقة.لا توجد حقيقة واحدة، بل لحظات تتفتت كقطع زجاج، كل عين تراها من زاوية مختلفة. هكذا يلتقي الفيلم الياباني مع الرواية الأمريكية في قلب فكرة واحدة: الحقيقة ليست في تطابق الروايات، بل في وعي الإنسان بشتاتها.

 

ومن الغابة اليابانية إلى الجنوب الأمريكي، ومن الجوقة الإغريقية إلى ألف ليلة وليلة، يظل السرد البشري مرآة متكسّرة، لا تعكس وحدة بقدر ما تكشف غنى التناقض. هكذا يصبح راشومون مرآة لهذا الإرث الكوني: الحقيقة ليست رواية موحّدة، بل شبكة من السرديات المتضاربة، كل منها يضيء زاوية ويظلم أخرى.

 

لعبة الغياب والغربة يتسرّبان إلى الفيلم في أكثر من مستوى، وكأنّ كل شخصية تروي حادثة وقعت «في مكان آخر» لا يمكنها الوصول إليه تماماً.

1. غربة عن الحدث

2. غربة بين الرواة

3. فضاء الغابة كبُعد غائب

4. الغياب كموضوع

 

قد تصبح الكاميرا عيونا مكسرة

السينما نفسها تدخل اللعبة. الكاميرا عند كوروساوا لا تنقل الحقيقة، بل تصوغها من زاوية معينة. حين يرفعها نحو السماء، نرى الضوء متشظيًا بين الأغصان، في لقطات أصبحت شهيرة عالميًا. هذا الانكسار البصري ليس صدفة، بل استعارة عن الحقيقة التي تنقسم كلما نظرت إليها عين جديدة. الفكر السفسطائي الإغريقي قال: الإنسان مقياس كل شيء. الحقيقة هنا ليست ما يحدث، بل ما تُبصره كل عين. وفي الأمثال العربية نقرأ: الحق كالسيف، يلمع في كل جهة. النظرة ليست نافذة محايدة، بل مرآة تفتت المشهد وتعيد ترتيبه. بهذا، تصبح العين راوٍ آخر، والكاميرا أداة تكشف أن الرؤية نفسها تصوغ روايتها. فالإخراج عند كوروساوا لا يكتفي بعرض شهادات متناقضة
إنه يصوغ اللغة البصرية والتمثيلية بحيث يجعل كل رواية تبدو كمرآة لذات الراوي، لا كنسخة محايدة من الواقع.


عدة عناصر تظهر هذا «التلاعب» الذي يدعم الذاتية والتكسير:

 

1. أداء الممثلين المتحوّل

2. حركة الكاميرا والزوايا

3. الإضاءة والظل

4. المونتاج والإيقاع

5. المستوى الميتاسردي


كوروساوا يعامل الممثل والكاميرا والمونتاج كعناصر روائية لا كأدوات محايدة.
كل شهادة تُعاد صياغتها بتمثيل وإضاءة وزوايا خاصة، فيدرك المشاهد أن ما يراه ليس “الواقعة”، بل إسقاط ذاتي متكرر.


وعي الإنسان بالتشظي

حين يعود السرد إلى بوابة راشومون، تحت المطر، نجد أنفسنا أمام عتبة رمزية: معبد متهدم، بين الداخل والخارج، بين الخراب والحياة. المكان يذكّرنا ببرسيفوني الإغريقية التي تعيش بين عالمين، كما يذكّرنا بالمقامات العربية حيث النص يتأرجح بين الجد والهزل، بين الواقع والخيال. الوعي هنا ليس في اختيار رواية على حساب أخرى، بل في إدراك أن كل رواية شظية من حقيقة أكبر لا تُمسك كاملة. وهنا يتحول الإنسان من باحث عن الحقيقة إلى شاهد على هشاشتها.

راشومون ليس فيلمًا عن جريمة غامضة بقدر ما هو تأمل في هشاشة الحقيقة وتفتتها. الغابة متاهة بصرية، الشهادات مرايا متقابلة، الكاميرا عيون متكسّرة، والبوابة المهدّمة عتبة رمزية للحقيقة. في النهاية، لا رواية صحيحة وأخرى خاطئة: كلها مجتمعة ترسم صورة الإنسان وهو يواجه تعدد السرديات دون أن يمتلك يقينًا مطلقًا.

 

 قد نتساءل في النهاية: من الأضعف، الواقعة أم الحكاية؟ فلكي تكتسب الحادثة الآنية والعشوائية حضوراً اجتماعياً، علينا أن نلزمها بنَسَقٍ سردي خطّي. وهنا يبدأ التشظّي: الراوي يختار ويُهمل، والسامع يعيد التشكيل، فتذوب الحقيقة كشبح غائب. ومع ذلك يبقى السرد، سلاحاً تتبناه الذات لتسكن اضطرابات الحياة. ربما لهذا يصبح الحكي ضرورة نفسية، لا مجرّد ترفٍ فني.

إذا كان فيلم "راشومون" يُعلّمنا تجزئة الواقع، فربما لأنه يكشف عن خلل أعمق بكثير: الهشاشة الوجودية للحقيقة نفسها. لا يُظهر الفيلم شخصياتٍ تتصارع على حقيقةٍ راسخةٍ تُشوّهها. بل على العكس، يُظهر أن الحقيقة شبحٌ غائب، شمسٌ لا تُمحى. ما هو متينٌ وقويٌّ ومرنٌ هو الرواية. صُممت للحماية، أو التمجيد، أو التضحية، وهي الدرع السردي الذي تصنعه الأنا للنجاة من فوضى الوجود. لم يعد السؤال إذن "ما هي الحقيقة؟" بل "ما هو هدف هذه القصة؟ لماذا هي ضروريةٌ للبقاء النفسي لراويها؟"

الحقيقة المتشظّية في زمن الأخبار المتعددة

بعد سبعين عامًا من Rashōmon، نعيش بدورنا داخل بوابة إلكترونية لا تنتهي. كل حادثة تلد عشرات الشهادات، وكل شاشة غابةٌ من ضوء وظل. ربما كان كوروساوا يحدّثنا عن حاضرنا أكثر مما نحسب، حين جعل الحقيقة شبحًا لا يُمسَك، والرحمة البشرية آخر خيط يربطنا ببعضنا.

 

يتردد صدى تحليل فيلم "راشومون" أبعد من القضايا السياسية والإعلامية. فهو يُسلّط الضوء بدقةٍ فائقة على أكثر آلياتنا النفسية حميمية. ألم نشعر قط، عند محاولة سرد حلمٍ لعدة أشخاص، بذلك الشعور الحاد بخيانة التجربة الأصلية؟ مع كل إعادة سرد، نُبرز تفصيلاً، وننسى آخر، ونُكيّف النبرة مع جمهورنا. الحلم، هو واقعٌ مُعاشٌ يتصدّع بشكلٍ لا يُمكن إصلاحه بمجرد محاولتنا استيعابه من خلال اللغة ومشاركته. من قاعة المحكمة إلى خصوصية غرفة نومنا، يكشف فيلم كوروساوا عن قانونٍ عالمي: الذاكرة سرد، وكل سرد تفسير. وهكذا، فإن تجزئة الواقع ليست لعنةً حديثة، بل هي حالةٌ أساسيةٌ من حالات التجربة الإنسانية، يُخلّدها فيلم "راشومون" بكآبةٍ مُتألقة.