استأثر اعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثلاثاء 16 شتنبر الجاري بأنه سيرفع دعوى قضائية على صحيفة نيويورك تايمز بتهمة التشهير به وتشويه سمعته، مطالبا بتغريمها نتيجة ذلك بمبلغ مالي كبير جدا حدده في 15 مليار دولار، باهتمام ليس فقط وسائل الاعلام في مختلف أصقاع المعمور، بل كذلك الرأي العام الدولي الذي أصبحت مواقف وآراء ساكن البيت الأبيض، حول مختلف القضايا المحلية والدولية والإقليمية تتصدر واجهة الأخبار، وتغطى على كل القضايا التي تتحول الى أنباء ذات طبيعة ثانوية.
فدونالد ترامب، قال من على " تروث سوشيال" منصته الخاصة، "سمح لصحيفة " نيويورك تايمز" بالكذب والتشهير بي بحرية لفترة طويلة للغاية، وهذا سيتوقف الآن " واصفا إياها بأنها "إحدى أسوأ الصحف وأكثرها انحطاطا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية"، موضحا أن هذه الصحيفة "بوقا للحزب الديمقراطي اليساري المتطرف، وأكبر مساهمة غير قانونية" كذلك خلال الحملة الانتخابية لمنافسته، عن الحزب الديمقراطي كاملا هاريس إبان الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
لكن "نيويورك تايمز"، لم تتأخر في الرد، بتنديدها بالدعوى التي رفعها دونالد ترامب ضدها، ووصفتها بأنها " محاولة واضحة لتكميم الصحافة المستقلة، وليست أيضا، إلا محاولة لقمع وثني العمل الصحفي المستقل" . وفي هذا السياق قالت "لن تردع تكتيكات الترهيب" الصحيفة الشهيرة التي تعتبر الأكثر تأثيرا في الرأي العام الدولي. وأضافت الصحيف أن هذه الدعوى، " لا أساس لها.. إنها تفتقر إلى أي ادعاءات قانونية مشروعة". غير أن هذه الدعوى القضائية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة التي يرفعها ترامب ضد وسائل الإعلام التي طالما وصفها ب" عدو الشعب ".
ففي ولايته الرئاسية الثانية، فإنه من المرجح أن " يتفرغ لتصفية حساباته " مع الصحافة المعادية" من خلال تنفيذ تهديداته التي كان أطلقها خلال حملته في الانتخابات الرئاسية، مكثفا هجومه الواسع ليس فقط على الصحافة، ولكن على حرية التعبير التي تعد حرية الصحافة أرقاها، محاولا بذلك النيل من مصداقية واستقلالية ليس فقط صحافة بلاده ولكن بالعالم أجمع، على الرغم من أن حرية الصحافة مضمونة ببلاد العم سام منذ أول تعديل طال الدستور، باعتبارهما حقا مقدسا بالولايات المتحدة الأمريكية.
ففي بداية ولايته الرئاسية الحالية، كان ترامب زلزالا هائلا تردد صداه بمختلف وسائل الإعلام عبر العالم لكن تردداته القوية عصفت بالمشهد الصحفي في بلاد العم سام، ذاك الذي أحدثه إعلان البيت الأبيض، بأنه هو من سيتولى من الآن فصاعدا اختيار المنابر الإعلامية والصحفيين للتغطيات الرئاسية بدل رابطة مراسلي البيت الأبيض المخولة لها سلطة كاملة على تشكيل الفرق المكلفة بهذه التغطية الصحفية، وهو ما شكل تغييرا لتقليد جرى العمل به منذ عام 1914.
وفي تعليقها على هذا القرار، قالت هذه الرابطة وهي هيئة مستقلة، بأنه " في بلد حر، لا يختار القادة وسائل الاعلام". وكان ترامب، قرر قبل ذلك، منع صحافيي وكالة أنباء " أسوشيتد برس"، من تغطية الأحداث الرئاسية، بدعوى رفضها تعويض "خليج المكسيك" بتسمية "خليج أميركا " في نشراتها الخبرية، بناء على قرار تنفيذي لترامب.
وتكرست العلاقة المتشنجة ما بين الصحافة والرئيس ترامب الذي عادة ما يتهم اليسار ببسط سيطرته على وسائل الاعلام الأمريكية، بعدما رفض سنة 2017، حضور حفل مراسلي البيت الأبيض، ليصبح بذلك أول رئيس منتخب يقاطع هذا الحفل مع الصحافيين.
لكن علاقة ترامب مع الصحافة، ظلت تتأرجح دوما ما بين الحب والكراهية، فهو وإن كان معروفا عنه مواجهته المستمرة مع وسائل الاعلام خاصة التقليدية ( الصحافة المكتوبة والمرئية )، فإنه بالمقابل يسمح للكاميرات والميكروفونات، بأن تظل مركزة عليه طوال الوقت حتى يبقى حاضرا، لإدراكه لأهميتها في توجيه للرأي العام الأمريكي وتأثير فيه، وكذلك لتمرير رسائله ومواقفه واملاء قراراته حول مختلف القضايا محلية كانت أو دولية، بدون المرور اللجوء المؤسسات الدستورية.
وعلى خلاف ما كان سائدا مع سابقيه من الرؤساء الذين غالبا ما وصفت علاقاتهم بالصحافة ب" الجيدة"، فان ترامب اهتدى إلى الاستفادة من وسائط الاعلام الجديد بكثافة، في تواصله المباشر مع الرأي العام المحلى والدولي. لكن دحض بفوزه في الانتخابات الرئاسية، الفكرة التي كانت سائدة بأن أي مرشح، لن يكون بمقدوره الفوز بالانتخابات الرئاسية، ما لم يحظ بدعم ومساندة وسائل الاعلام، التي عادة ما تكون السباقة الى الإعلان عن فوز المرشح في الاستحقاقات الانتخابية قبل الإعلان عليها رسميا.
فوسائل الإعلام تظل رغم كل ذلك تضطلع بدور كبير في حماية الديمقراطية، من خلال الرقابة على الشأن العام ومحاسبة المسؤولين ونشر الأخبار وتعميم المعلومات والبحث عن الحقيقة. لكن بالمقابل تفقد الصحافة مصداقيتها وقدرتها مع الوقت على التأثير في الرأي العام، وذلك عندما تتخلى عن استقلاليتها المهنية، إذ لا ديمقراطية بدون حرية الصحافة والاعلام.
وإن كان من البديهي، القول بأن مهمة الصحافة ليس " إنقاذ الولايات المتحدة من ترامب" الذي كان قد لوح كذلك بمتابعة الصحفيين قضائيا في حال اعتمادهم على مصادر مجهولة في نشر الأخبار، فإنه بالمقابل يقع على عاتقها " مقاومة خطر وقوع الديمقراطية فريسة للاستبداد والديماغوجية .. من قبل القادة المنتخبين والمسؤولين الحكوميين" كما كان يردد كارل بيرنستاين الصحافي والكاتب الأمريكي الذي كان وراء كشف قضية "ووترغيت" التي أدت إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون.
لكن بصفة عامة، أن يكون الصحافي معارضا مخلصا من أجل إشاعة الحقيقة ومنع الفساد، فهو لا يمكن أن يكون عدوّا للشعب، " ذلك ما لا يريد أن يدركه ترامب وهو يعيش مرحلة مستمرة من اللعب السياسي المسكون بالشغف العبثي وهذا النوع من المعارضة الصحية، هو ما يُبقي الديمقراطية على قيد الحياة، ويشكل في فحواه واحدة من المسؤوليات الجوهرية للصحافة الحرة"، وفق تعبير الكاتب الأميركي نوح فليدمان أستاذ القانون في كلية هارفاد.
فالصحافة رغم التحولات التكنولوجية، والمتغيرات السياسية الدولية، تظل سلطة مضادة، مستقلة وأداة رقابة، تحمى المواطنين من تدخل السلطة بمستوياتها و تمثلاتها في ممارسة حرياتهم الفردية، مما يجعل العلاقة بين الإعلام والدولة، غالبا ما تتسم بالتعقيد التوتر، في الوقت الذي يبقى من الضروري لتحرر أي مجتمع، أن تظل سلطات الدولة موضع مساءلة، فضلا عن أن قدرة ميديا الاعلام على تعزيز الديمقراطية، مازالت جد محدودة.
ويبدو أن الصراع ما بين وسائل الاعلام خاصة التقليدية والرئيس الأمريكي، لن يكون من أجل تقاسم السلطة ما بين جهاز تنفيذي وسلطة رابعة في زمن التحولات التكنولوجية، بل هو "سباق المسافات الطويلة "من أجل كسب ود الرأي العام وإعادة تشكيله، بناء على المتغيرات السياسية والمجتمعية الراهنة، ليس فقط ببلاد العم سام وانما على المستوى العالمي.