ظلت القضية الفلسطينية، منذ تولي الملك محمد السادس الحكم صيف سنة 1999، إحدى الثوابت الكبرى في السياسة الخارجية المغربية، إذ لم يكف رئيس لجنة القدس في أي منعرج سياسي حاسم عرفته القضية إقليميا ودوليا، عن دعم حق الفلسطينيين في إنشاء دولتهم المستقلة، وعن ربط قيام الدولة الفلسطينية بالشرعية الدولية من جهة، وبالعمق الديني والروحي للمغرب من جهة ثانية، وبواجب الدفاع عن القدس الشريف بكل الطرق الممكنة، بما فيها الترافع الحقوقي الدولي، سواء في الأمم المتحدة أو في باقي المنظمات والمنتديات الدولية.
هذا الالتزام الثابت للمغرب، يتم في سياق دولي يتميز بتراجع مركزية القضية الفلسطينية في الأجندة العربية، وتزايد الضغوط على القيادة الفلسطينية (السلطة الفلسطينية)، واحتداد الانقسام الداخلي بين الفصائل، وكثافة محاولات فرض الأمر الواقع على الفلسطينيين عبر الاستيطان والحصار والعدوان الإسرائيلي العسكري المستمر حتى الآن على سكان غزة، وتحييد الضفة الغربية وتشديد الخناق على نشطائها، ومحاولة تكريس واقع جديد بهندسة أمريكية مكشوفة، وبدعم غربي فاضح. إذ ظل صوت المغرب، رغم كل العواصف التي واجهتها القضية ورغم كل المنعرجات، حاضرا بقوة في المحافل الدولية، مؤكدا أن سلام الشجعان في منطقة الشرق الأوسط لن يتحقق إلا بإنصاف الفلسطينيين وتمكينهم من إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وقد حرص الملك محمد السادس، في عهد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، على تثبيت شرعية السلطة الوطنية الفلسطينية، إذ أكد في خطبه ورسائله أن أي مسار للسلام لا يمكن أن يتجاهل مكانة هذه القيادة باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. وقد كان المغرب، طيلة تلك الفترة الحرجة داعما سياسيا للفلسطينيين في مواجهة محاولات التهميش والعزل والانقسام. بل إن الملك محمد السادس، عندما تعرض أبو عمار للحصار في مقر السلطة الفلسطينية برام لله سنة 2003، لم يتردد في التعبير عن تضامنه الشامل، وفي دعوة المجتمع الدولي إلى حماية الشرعية الفلسطينية من الانهيار، خاصة أن اتفاق أوسلو تعرض مبكرا لإجهاض مدبر من طرف اليمين الإسرائيلي المتطرف، ولرفض واضح من طرف جماعة حماس الفلسطينية، كما أن الموقف العربي، في عموميته، كان قد عرف انقساما شديدا بعد أزمة احتلال العراق للكويت وتأييد منظمة التحرير الفلسطينية للموقف العراقي، مما انعكس سلبا على القضية، حيث حوصرت بمتغيرات دولية وإقليمية لم تكن كلها تسير في ركب التسوية النهائية، بل في ركب الالتحاق بإعادة تشكيل خريطة جيوسياسية جديدة يصنعها كبار اللاعبين في المنطقة.
لقد كان الموقف المغربي في تلك المرحلة بمثابة إعلان واضح عن أن الدفاع عن الفلسطينيين وقضيتهم ليس مجرد شعار عاطفي يتغير بتغير المواقف والقيادات والظرفيات والرؤى، وإنما التزام سياسي ثابت غير خاضعة للمزايدة. التزام بالدعم السياسي والمالي، وانخراط في تقوية طرح حل الدولتين والتسوية السلمية في مختلف الواجهات.
ومع انتقال القيادة الفلسطينية إلى محمود عباس سنة 2005، استمر المغرب في خطه الثابت. فقد واصل الملك محمد السادس التأكيد، في رسائل سنوية يوجهها إلى الأمم المتحدة بمناسبة اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، على مركزية حل الدولتين وعلى ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة وفق قرارات الشرعية الدولية.
كما يذكر، في كل المناسبات، بأن غياب حل عادل من شأنه أن يذكي التوتر في المنطقة، وأن يفتح الباب أمام المزيد من العنف وعدم الاستقرار.
واللافت في الموقف المغربي أنه لم يكتف بالخطاب، بل دعمه بالفعل، من خلال عمل وكالة بيت مال القدس الشريف التي تواصلت مشاريعها التعليمية والصحية والاجتماعية في القدس بتمويل مغربي في الأغلب الأعم، رغم الظروف الأمنية الصعبة، في إشارة إلى أن الالتزام المغربي يتجاوز المستوى الدبلوماسي نحو الميدان العملي الملموس. هذا في الوقت الذي ترك الفلسطينيون، على المستوى العربي، لمصيرهم، مما عرض القضية لحصار مالي وسياسي غير مسبوق، حولها من قضية شعب إلى مجرد ورقة سياسية يستعملها كل لاعب حول أهوائه ومصالحه. ولعل هذا ما يفسر امتناع الملك محمد السادس، منذ سنة 2005، عن حضور القمم العربية، إذ اعتذر سنة 2016 عن استضافتها بسبب فقدان اجتماعات القمة لفعاليتها وتحولها إلى مناسبات شكلية لا تنتج قرارات مؤثرة. كما غاب عن قمة الأردن سنة 2017، ثم عن قمة الجزائر سنة .2022
ولم يقتصر حضور المغرب، فلسطينيا، على الدعم الدبلوماسي والمؤسساتي، بل اتخذ بعدا إنسانيا واضحا في كل مرحلة من مراحل العدوان الإسرائيلي الغاشم على الشعب الفلسطيني. ذلك أن الملك محمد السادس ظل، منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، مرورا بالحروب المتكررة على غزة في 2008 و2014 و2021، وصولا إلى المأساة الإنسانية الراهنة (حرب التجويع والإبادة، من أبرز القادة العرب والمسلمين الذين يوجهون نداءات عاجلة إلى المنتظم الدولي من أجل وقف نزيف الدم الفلسطيني في غزة. وفي أكثر من مناسبة، عبّر في رسائله وخطبه عن رفضه الشديد لاستهداف المدنيين العزل، وعن إدانته للسياسات الإسرائيلية التي تقوم على التهجير والاستيطان والقمع الجماعي والتقتيل والإبادة. ولم يقف الأمر عند حدود المواقف السياسية، بل تُرجِم في الترخيص للمظاهرات والمسيرات المنددة بالعدوان الهجمي لجيش الاحتلال الاسرائيلي وإرسال مساعدات عاجلة متكررة من أدوية ومستلزمات طبية وغذائية إلى سكان غزة، في خطوة جعلت المغرب حاضرا ليس فقط كصوت مدافع، بل كفاعل إنساني حاضر في الميدان ويسعى إلى التخفيف من معاناة المدنيين الفلسطينيين الذين يواجهون بربرية نتانياهو بصدور عارية. وكانت آخر هذه المبادرات في صيف 2025 (يوليوز وغشت)، إذ أمر الملك محمد السادس بإرسال دفعات ضخمة من المساعدات الإنسانية (نحو 280 طنا) على وجه الاستعجال إلى قطاع غزة، تشمل مواد غذائية وأدوية طبية ومستلزمات عاجلة للأطفال وغيرها، عبر جسر جوي خاص لضمان إيصالها بشكل مباشر، ما يدل على أن البعد الإنساني جزء أصيل من الدبلوماسية المغربية بقيادة الملك محمد السادس.
هذه الاستمرارية في الالتزام السياسي تجعل من المغرب حالة خاصة في العالم العربي. فبينما اتجهت بعض الدول إلى ربط القضية الفلسطينية بظرفيات سياسية متغيرة ونحت منحى انتهازيا وابتزازيا في التعامل معها (حالة الجارة الجزائر)، ظل المغرب ثابتا في مواقفه، معتبرا أن القضية الفلسطينية قضية وطنية بقدر ما هي قضية قومية أو إسلامية، الأمر الذي يعني الالتفاف حولها والاستمرار في الدفاع عنها في كل الظروف والمنعرجات. وقد أكد الملك محمد السادس أكثر من مرة، وفي أكثر من رسالة أو خطاب، أن الدفاع عن القدس الشريف جزء من مسؤوليته الدينية بصفته أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، وهو ما يضفي على الموقف المغربي شرعية إضافية تجمع بين البعد السياسي والروحي. واضح ذلك في حرصه على التأكيد أن "الاتفاق الثلاثي" (بين الرباط وواشنطن وتل أبيب) لا يعني التخلي عن دعم القضية الفلسطينية، وأن موقف المغرب ثابت لا يتغير. ففي الرسائل التي بعث بها إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس مباشرة بعد الإعلان عن الاتفاق، أكد أن المغرب لن يفرط في حقوق الشعب الفلسطيني، وأن إعادة العلاقات مع إسرائيل لا تلغي التزامه التاريخي والديني تجاه القدس وفلسطين. وهذا يؤكد مسعى المغرب إلى الجمع بين الواقعية الدبلوماسية والدفاع عن المبادئ، في رؤية تعتبر أن الحفاظ على قنوات التواصل مع كل الأطراف قد يتيح فرصا أكبر للوساطة والتأثير الإيجابي على القضية، لا من موقع الخضوع السياسي، بل من موقع الحوار القائم على التوازن بين القوى.
وإذا تأملنا في سجل المغرب منذ 1999 إلى اليوم، نجد أن الالتزام السياسي بقيادة الملك محمد السادس تجسد في ثلاث مستويات متكاملة.
أولا :مستوى الخطاب السياسي الواضح الذي يربط السلام العادل بالشرعية الدولية وبحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم: حل الدولتين (دولة إسرائيل+ دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف).
ثانيا :المستوى العملي الميداني عبر وكالة بيت مال القدس الشريف والمبادرات الإنسانية المتكررة، والتي منحت للموقف المغربي مصداقية لدى الفلسطينيين أنفسهم.
ثالثًا :المستوى الدبلوماسي الذي يجعل من المغرب طرفا قادرا على مخاطبة المجتمع الدولي والضغط من أجل إيجاد حلول عادلة، دون أن يسقط في منطق الاصطفاف الأعمى أو الانحياز غير المشروط.
إن استمرارية هذا الالتزام الملكي تعكس أن القضية الفلسطينية ليست مجرد ملف خارجي عادي في السياسة المغربية، وإنما ركيزة أساسية في بناء صورة المغرب كدولة لها عمق حضاري وديني وتاريخي في المنطقة. إذ مهما تغيرت التحالفات الدولية والإقليمية، فإن ما يميز الموقف المغربي هو وضوحه في رفض عدوان الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، وثباته في الدفاع عن الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وحرصه على الجمع بين الخطاب السياسي والعمل الميداني.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الان"