عبد الرفبع حمضي: تلك المدرسة

عبد الرفبع حمضي: تلك المدرسة عبد الرفبع حمضي
خمس دقائق فقط كانت كافية لتشعل نقاشًا واسعًا! خمس دقائق اقتطعتها وزارة التعليم من زمن الحصة الدراسية، لتنتقل من 45 إلى 40 دقيقة. قد يبدو الأمر تفصيلًا تقنيًا بسيطًا يثير ابتسامة عابرة، لكن في الكويت لم تمر تلك الدقائق مرور الكرام مع الدخول المدرسي. فقد تحولت إلى مادة للصحف، وموضوع للنقاش في القنوات التلفزية والمواقع الاجتماعية، ومحور حوار بين نساء ورجال التعليم والأسر والخبراء. ذلك أن الرهان لم يكن على الزمن في حد ذاته، بل على فلسفة التعليم: كيف يُدار وقت التلميذ في القسم وخارجه؟ ومن يملك الحق في اتخاذ مثل هذا القرار؟

في البلد نفسه، فتحت الوزارة نقاشًا حول إدماج مادة الاجتماعيات في السنة الأولى من الابتدائي. خطوة جريئة وازَنَت فيها الكويت بين حاجياتها الوطنية وأفضل التجارب العالمية في بلدان الشمال، حيث يُنظر إلى التاريخ والجغرافيا لا كمقررات للحفظ، بل كأدوات لبناء الفكر الاستراتيجي عند الطفل: كيف يقرأ الزمن عبر التاريخ؟ وكيف يفهم المكان عبر الجغرافيا؟ وكيف يدرك موقع وطنه في عالم متغيّر؟
 
من الطبيعي اذن  أن يكون الدخول المدرسي مناسبة لمراجعة القديم والإعلان عن الجديد. غير أن جوهر النقاش يختلف من بلد إلى آخر. فهناك مجتمعات حسمت منذ عقود صورة المدرسة التي تريدها: مدرسة مندمجة في مشروعها المجتمعي، تربط بين المعرفة والحرية، بين الاقتصاد والعدالة، بين التكنولوجيا والقيم. وهناك مجتمعات أخرى ما تزال تراوح مكانها وسط أسئلة حارقة: أي مدرسة نريد؟ هل هي مدرسة تنتج أفرادًا معزولين، أم مواطنين فاعلين؟ هل هي مدرسة لتكديس المعارف، أم فضاء لتربية الإنسان على الكرامة باعتبارها قيمة أصيلة، وعلى احترام القانون كأسلوب حياة داخل المجتمع؟
 
إن حصر النقاش في شعارات مثل “مدرسة الريادة” أو في الجدل بين “المقاربة بالمضامين” و”المقاربة بالأهداف” و”المقاربة بالكفاءات” ليس إلا اختزالًا تقنيًا لقضية أعمق. فنحن أمام مشهد تعليمي مطبوع بتعدد المسالك: تعليم عمومي، تعليم خصوصي، ومدارس بعثات أجنبية. لكن هذا التعدد ليس تنوّعًا صحيًا يثري العرض، بل تكريس لاختلال بنيوي يضرب في العمق مبدأ تكافؤ الفرص؟ يكفي أن نذكر أن البعثة الفرنسية بالمغرب، التي أُنشئت في الأصل لأبناء الفرنسين وبعض الأجانب المقيمين بالمغرب ،تحولت اليوم إلى أكبر بعثة فرنسية في العالم،70% من روادها مغاربة.
 
ثم يبرز سؤال آخر لا يقل إلحاحًا: أي لغة للتعليم نريد؟ هل نستمر في هذا التعدد المربك الذي يجعل التلميذ موزعًا بين لغة البيت، ولغة المدرسة، ولغة السوق؟ أم نحسم في استراتيجية لغوية تجعل من اللغة جسرًا نحو المعرفة والانفتاح بدل أن تكون جدارًا للعجز والانقسام؟
لقد لخّص إدغار موران هذا التحدي بقوله: “إصلاح التعليم لا يتم بقرارات فوقية، بل بإصلاح المجتمع عبر المدرسة.” فالتعليم ليس مجرد قطاع تقني، بل هو صورة المستقبل الذي ننشده.