هذا النص يقارن بين غسان كنفاني وخوان رولفو، ويبحث كيف تتحول الكتابة إلى لغة بديلة حين يتعثر اللسان.
عند كنفاني، يظهر اللامقول في الجملة القصيرة والاقتصاد الشديد، وفي الأسئلة المعلّقة مثل: «لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟». اللغة هنا تنكفئ لتكشف الغياب بالصمت.
عند رولفو، تتشظى الحكاية وتتعالى أصوات الموتى والأحياء في اختلاط مربك. اللغة تلتوي بالفوضى لتعبّر عن ذاكرة لا تستقر.
كيف نكتب ما لا يُقال؟ هذا السؤال يطارد الأدب كلّما واجه الصدمات الجماعية. هناك أحداث تكون فادحة إلى درجة تعجز اللغة عن احتوائها. الكاتب لا يملك إلا أن يقترب منها عبر الالتفاف، عبر الصمت، عبر الفراغات. في الأدب العربي الحديث، كان غسان كنفاني من أبرز من خاض هذا التحدّي، محوِّلاً الغياب الفلسطيني إلى مادة سردية. وعلى الضفة الأخرى من العالم، في المكسيك، كتب خوان رولفو عن غياب جماعي آخر، عن قرى محطَّمة بوطأة التاريخ. وكلاهما ابتكر تقنيات تجعل من الصمت والتشظي لغة جد.
عام 1969 نشر كنفاني قصته عائد إلى حيفا. الزوجان سعيد وصفية يعودان بعد عشرين سنة من النكبة إلى بيتهما. هناك يواجهان الصدمة الكبرى: ابنهما خلدون الذي تركاه طفلاً صار الآن جندياً إسرائيلياً باسم آخر: دوف.
لا صراخ ولا عويل. الجمل قصيرة، مباشرة، خالية من الزخارف:
« ــ أنت خلدون؟ »
« ــ اسمي دوف. »
الصمت هنا أبلغ من كل الكلمات. التوتر ينعكس في التردد، في النظرة، في الاسم المرفوض. الاقتصاد اللغوي ليس فقراً بل تقنية: أن يترك الكاتب فراغاً على القارئ أن يملأه بألمه الخاص.
وفي رجال في الشمس (1962)، يصل هذا الأسلوب إلى ذروته. ثلاثة فلسطينيين يختنقون داخل صهريج ماء أثناء محاولة عبور الحدود. وتنتهي القصة بجملة واحدة:
« لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟ »
سؤال بلا جواب، يفتح هوة من الصمت. ليس الموت وحده ما يُفجع، بل العجز عن الصراخ.
تقنيات كنفاني:
إنها كتابة تُحاكي الخنق نفسه: صمت شعب لم يُتح له أن يصرخ.
عام 1955 أصدر خوان رولفو روايته بيدرو بارامو. يذهب خوان بريثيادو إلى قرية كومالا بحثاً عن أبيه. لكن القرية مليئة بالأشباح، والموتى يتكلمون أكثر من الأحياء. سرعان ما يكتشف القارئ أنّ الراوي نفسه قد يكون ميتاً.
منذ البداية يظهر الأسلوب:
« جئتُ إلى كومالا لأنهم قالوا لي إن أبي، واسمه بيدرو بارامو، يعيش هناك. »
لكن سرعان ما تتناوب الأصوات. جمل مبتورة، مقاطع غير مكتملة، أصوات تتقاطع. لم يعد ممكناً التمييز بين زمن وآخر، ولا بين حي وميت. النص كله يتحوّل إلى فسيفساء من الهمسات.
تقنيات رولفو:
إنها كتابة تُحاكي ضباب الذاكرة الجمعية، حيث اللامقول لا يظهر كفراغ بل كفائض أصوات بلا نظام.
أسلوبان متعارضان، لكن الغاية واحدة: قول الغياب.
كلاهما يرفض السرد الخطيّ المطمئن، ويستبدله بنصّ يُحاكي الكسر. اللغة لا تُغطي الفقد، بل تكشفه.
والقارئ شريك أساسي:
القراءة نفسها تصبح تجربة للامقول.
« لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟ »
سؤال يتوقف عنده النص، تاركاً هوّة للقارئ.
« استيقظتُ على نباح الكلاب… »
لكن القائل هنا ميت. الجملة ذاتها تنزلق خارج منطق الحياة.
كلاهما يجعل الشكل وسيلة لقول الغياب: تعليق مفاجئ عند كنفاني، وأصوات أشباح عند رولفو.
فلسطين كنفاني ومكسيك رولفو، رغم تباعدهما، تلتقيان في هذه الكتابة عن الغياب. الأول يكتب عن نكبةٍ اقتلعت شعباً من أرضه، والثاني عن قرى أنهكتها الثورة والفقر والإقطاع. كلاهما يعلم أن اللغة تعجز عن احتواء المأساة، لكنهما يبتكران وسائل لتقريبها: الصمت هنا، والفوضى الصوتية هناك.
الأدب عندهما شهادة غير مباشرة: لا يفسّر ولا يقدّم أجوبة، بل يُشرك القارئ في اختبار الغياب.
7. خاتمة: لغة الغائبين
.يُعلّمنا كنفاني ورولفو أن الأدب ليس فنّ السرد فقط، بل فنّ الحذف والتشظي أيضاً. اللامقول ليس عجزاً للغة بل هو مهمّتها الأسمى: أن تمنح شكلاً لما لا يمكن أن يُقال.
البيت المسلوب في حيفا، والقرية الموحشة في كومالا، الابن الذي لم يعد ابناً، والأب الذي لا يُعثر عليه: كلها صور للحقيقة نفسها. التاريخ يخلّف وراءه غائبين، والأدب يحوّلهم إلى حضور.
كنفاني يفعل ذلك بالصمت والاقتصاد، ورولفو يفعله بالتشظي والأصوات. كلاهما يكتب من قلب الغياب، ويجعل من الأشباح والصمت لغةً للذاكرة.
خاتمة
حين يتعثر اللسان، تبدأ الكتابة من جديد. بالصمت عند كنفاني وبالأشباح عند رولفو، يتحول الغياب إلى حضور، ويصبح العجز عن القول بداية لأسلوب آخر.