برعلا زكريا: في زمن لهيب الأسعار هل لا زال المغاربة يفرحون بقدوم الضيوف؟

برعلا  زكريا:  في زمن لهيب الأسعار هل لا زال المغاربة يفرحون بقدوم الضيوف؟ برعلا زكريا
لم يعد نقاش استقبال الضيوف في البيوت يطرح اليوم بخجل أو همس، بل تحول إلى جدل صريح تفرضه حقائق اجتماعية واقتصادية ضاغطة. صحيح أن كرم الضيافة وحسن الاستقبال يتجذر في عمق الهوية المغربية، لكن هذا الموروث الثقافي يصطدم بواقع معيشي متغير، يجعل من فتح الأبواب التزاما ثقيلا يشقى بحمله الكثيرون في صمت. لقد تغيرت الظروف، وبات السؤال مشروعا: هل لا يزال المغاربة يتحملون عبء الضيوف في زمن ضاقت فيه البيوت والجيوب والصدور؟
 
إن المحرك الأساسي لهذا التحول هو الضغط المادي الذي يطحن القدرة الشرائية للأسر المغربية. فمع استمرار ارتفاع تكلفة المعيشة، خاصة في أسعار المواد الغذائية الأساسية التي تشكل العصب الرئيسي لمائدة الضيافة، ومع ثبات الأجور وتآكلها بفعل التضخم، تحولت استضافة الزائر من واجب اجتماعي مبهج إلى عملية حسابية معقدة. لم يعد إعداد وليمة تليق بالضيف أمرا سهلا، بل أصبح يقتطع جزءا كبيرا من ميزانية شهرية منهكة أصلا بفواتير الإيجار والماء والكهرباء ومصاريف التمدرس والعلاج. هذا الواقع المادي الصعب فرض على الكثيرين حالة من النفاق الاجتماعي، حيث يتم الترحيب باللسان بينما يعتصر القلب ألما لتكاليف غير متوقعة تزيد من أعباء الحياة اليومية.
 
ويتعمق هذا الإحساس حين يلتقي شح الموارد مع ضيق المكان. لقد أحدث التحول العمراني السريع، والانتقال من الدور الواسعة التي كانت تحتضن الأسرة الممتدة إلى شقق السكن الاقتصادي التي لا تتجاوز مساحتها في الغالب بضعة أمتار مربعة، شرخا في بنية الضيافة التقليدية. فالمساحات المصممة بالكاد لتلبي احتياجات الأسرة النووية الصغيرة، تجد نفسها عاجزة عن استيعاب الزوار، خاصة إذا طالت مدة إقامتهم، ما يفرض تحديا مكانيا ويغذي شعورا بالتوتر وفقدان الخصوصية لدى أهل البيت، ويحول المساحة التي من المفترض أن تكون ملاذا للراحة إلى مصدر إزعاج وقلق مستمر.
 
ويضاف إلى هذين العاملين ضغط من نوع آخر لا يقل حدة، وهو ضيق الوقت الذي فرضه أسلوب الحياة العصرية. فلم يعد إيقاع الحياة مرنا كما في السابق، بل أصبح معظم الموظفين والأجراء سجناء جداول عمل صارمة وساعات طويلة تمتد أحيانا خارج الدوام الرسمي. هذا الارتباط الصارم يصعب مهمة استقبال الضيوف، خاصة المفاجئين منهم، ويجعل من التفرغ لهم تضحية بالوقت المخصص للراحة أو قضاء الأغراض الأسرية الضرورية، مما يضع المضيف في حرج دائم بين واجب الضيافة ومتطلبات العمل المرهقة.
 
ولعل التحدي الأكبر الذي عمق الأزمة هو التغير الجذري في دور المرأة. فبعد أن كانت ربة البيت هي الركيزة الأساسية لعملية الاستقبال، حيث تكرس وقتها وجهدها لإعداد ما يليق بالضيوف، أصبح انشغال الزوجات اليوم بالعمل خارج المنزل ضرورة اقتصادية لا مفر منها. هذا الواقع الجديد يجعل من استقبال الضيوف هما إضافيا وموقفا محرجا للمرأة العاملة، التي تجد نفسها مطالبة بالتوفيق بين التزاماتها المهنية الشاقة وواجباتها المنزلية، وبين الحفاظ على صورة الأسرة الكريمة التي لا ترد زائرا. لقد تحول الكرم، في نظر الكثيرات، من فضيلة إلى عبء يفوق الطاقة.
 
هذه الضغوط المادية والمكانية والزمنية لا تبقى حبيسة الجدران والميزانيات، بل تتسرب لتصيب الصحة النفسية للمواطنين. تؤكد ذلك تقارير ودراسات حديثة خلصت إلى أن نسبة كبيرة من المغاربة يعانون من اضطرابات نفسية كالقلق والاكتئاب. وتأتي الزيارات غير المخطط لها، وما تفرضه من جهد جسدي ونفسي وتظاهر بالترحاب، لتضيف طبقة جديدة من الإجهاد على نفسية متعبة أصلا. لم يعد رفض الضيافة نابعا من بخل أو انعدام مودة، بل أصبح في كثير من الأحيان ضرورة لحماية ما تبقى من طاقة نفسية وسلام داخلي، وباتت العزلة خيارا دفاعيا للهروب من التزامات اجتماعية أصبحت تفوق القدرة على التحمل.
 
وفي خضم هذه التحولات، برز الهاتف الذكي كعامل جديد أعاد تعريف شكل العلاقات الاجتماعية. لقد وفر هذا الجهاز بديلا افتراضيا ومخرجا سهلا من الالتزامات المباشرة، فكرس نوعا من التواصل عن بعد يفتقر إلى الدفء الإنساني. أصبح من الممكن الحفاظ على صلة القرابة والمودة عبر رسالة نصية أو لايك على منصات التواصل الاجتماعي، مما خلق قناعا من الاهتمام يخفي وراءه فتورا وابتعادا عن اللقاءات الواقعية. لقد أتاح الهاتف الذكي شكلا جديدا من النفاق الاجتماعي، حيث يظهر الأفراد اهتماما لا يشعرون به حقيقة، ويؤدون واجب السؤال دون تحمل تكلفة اللقاء. هذا السلوك، الذي يبدو كحل عصري، يساهم في تآكل عمق العلاقات الإنسانية الحقيقية ويعزز الانعزال الفردي.
 
إن قيمة الضيافة المغربية لا تموت، بل هي في طور تحول قسري تفرضه حقائق العصر. فالمشكلة لا تكمن في تآكل الكرم كقيمة أخلاقية، بل في اضمحلال الموارد المادية والمكانية والطاقة النفسية التي كانت تغذيها. وفي هذا السياق، يردد الناس المثل المغربي العميق الذي يحفظ ماء وجه الزائر والمضيف : الله يرحم من زار وخفف !