"الذي يقرأ ويفهم سيحاورني، والذي يقرأ ولا يفهم سيشتمني، والذي لا يقرأ ولا يفهم سينتصر علي."
فرج فودة
تشكل عبارة فرج فودة مدخلا نقديا لفهم علاقة المثقف بالمجتمع، ولتفكيك التوتر القائم بين المعرفة والسلطة، بين الفهم وسوء الفهم، وبين الكلمة والعنف. فهي ليست مجرد توصيف ساخر، بل هي تشخيص عميق لآلية اشتغال العقل الجمعي في مجتمعات يختلط فيها السياسي بالديني، والعاطفي بالعقلاني. هذه القولة تستدعي مساءلة فلسفية: لماذا ينقلب الحوار إلى شتيمة، ولماذا تتحول الأمية إلى قوة قاهرة تنتصر على الفكر؟
من يقرأ ويفهم – منطق الحوار
القراءة التي تثمر فهما حقيقيا تنتج بالضرورة إمكان الحوار. هنا تتحقق صورة المثقف كما رآها سقراط: لا يحتكر الحقيقة، بل يدخل في جدل عقلي مع من يفهمه. فودة يضع الأمل في هذه الفئة القليلة: القارئ الذي يفكك الخطاب، ويتفاعل معه، وربما يختلف لكنه يختلف بأدوات الفكر. إنها الفئة التي تؤمن بأن الخلاف لا يلغي الاحترام، بل يثري الحقيقة.
من يقرأ ولا يفهم – منطق الشتيمة
هذا المستوى يكشف عن مأساة أخرى: القراءة السطحية التي تفضي إلى سوء الفهم، فتتحول إلى عداء لفظي. هنا ينقلب الكتاب إلى ذريعة للاتهام، والفكرة إلى مبرر للسب والشتم. إننا أمام ما يسميه بول ريكور "سوء الفهم التأويلي"؛ أي أن النص يستقبل بعيون مغلقة، فيختزل إلى شبهة، لا إلى فكرة. الشتيمة إذن هي لغة العجز عن الفهم، حيث يستعاض عن الحجة بالسب، وعن البرهان بالوصم.
من لا يقرأ ولا يفهم – منطق الغلبة
المستوى الثالث هو الأخطر: فئة لا تقرأ، ولا تفهم، لكنها تنتصر. كيف تنتصر؟ تنتصر لأنها تملك سلطة العدد والعاطفة، بينما يملك المثقف سلطة الفكرة. إنها مفارقة السلطة في المجتمعات التقليدية: منطق الأغلبية الصامتة أو الغاضبة يغلب منطق الأقلية المفكرة. هنا نستحضر مفهوم "الوعي الزائف" عند ماركس، أو "عنف الجماعة" عند رينيه جيرار، حيث تتحول الكثرة غير الواعية إلى قوة تسكت الفكر بالعنف المادي أو الرمزي.
قولة فرج فودة ليست مجرد نبوءة شخصية بمصير مأساوي عاشه فعلا، بل هي تجسيد لفلسفة المثقف في العالم العربي: من يقرأ ويفهم يحاوره، ومن يقرأ ولا يفهم يشتمه، ومن لا يقرأ ولا يفهم يسكت صوته. هنا يظهر التوتر الجوهري بين سلطة العقل وسلطة العاطفة، بين مشروع التنوير ومقاومة الظلامية.
إنها صرخة فلسفية تختزل مأزق التحديث في مجتمعاتنا: هل يمكن للفكر أن ينتصر بالحوار في عالم يكافأ فيه الجهل بالغلبة ويعاقب فيه العقل بالشتم أو الاغتيال؟