أسلامة أشطوط: شاطئ الطنطان.. ذاكرة حية تجمع بساطة الماضي وروح الوحدة والكرامة الصحراوية

أسلامة أشطوط: شاطئ الطنطان.. ذاكرة حية تجمع بساطة الماضي وروح الوحدة والكرامة الصحراوية أسلامة أشطوط
يبدو شاطئ الطنطان قبل أن يُعرف - بالوطية ـ في ذاكرة أبناء المدينة فضاء يختلط فيه الواقع والذاكرة الجماعية.
كان الشاطئ فضاء طبيعيا صرفا، لا يسكنه إلا أبناؤه، يتوزعون فيه بعفوية، دون تخطيط مسبق ولا هندسة عمرانية صارمة. هناك، كان البحر يستقبلهم بأمواجه كأم رؤوم، والصحراء تفتح ذراعيها كحاضنة أبدية للذاكرة.
مع نهاية كل موسم دراسي، ونجاح التلاميذ في الامتحانات، تبدأ طقوس الرحلة نحو الشاطئ. كان النجاح يُكافأ بما تجود به أيدي الآباء والأمهات: بعض النقود القليلة، لكنها كافية لتأسيس عالم كامل من السعادة. يتجمع الأصدقاء، كل واحد منهم يضع نصيبه من مؤونة بسيطة: سكر، شاي، زيت، دقيق والقطاني (عدس، لوبيا، أرز وشعرية)، بالإضافة إلى "المگلي" الذي لا تخلو منه أية خيمة صحراوية بالمخيم.
تبنى الخيمة على عجل، ليبدأ فصل جديد من مسرح الحياة، حيث يتداخل صخب البحر بدندنة الگيتار، گيتار لم يكن في الحقيقة سوى "دَنْدَانَة" زيت لسيور وقطعة خشبية و"سْلُوك لَفْرَانْ"، لكنه كان كافيا لخلق موسيقى تعزف على أوتار القلوب.
كانت العائلات البيضانية تحضر بدورها إلى الشاطئ، مصطحبة معها خيامها وقطعان الغنم، في مشهد يجسد تواصل العادات البدوية مع المجال البحري. بل إن بعض الأمهات، ومن بينهن والدة الراوي، كن يشترطن اصطحاب الغنم كشرط أساسي للتخييم، وكأن البحر لا يكتمل حضوره إلا بظل الماعز ورائحة اللبن.
لم يكن أبناء الطنطان أبناء رفاهية، بل كانوا في غالبيتهم أبناء الجنود المرابطين في الصحراء، جنود لم يتسن لهم أن يكونوا آباء يوميين لأبنائهم، إذ كانت ظروف الحرب قاسية، تجعل اللقاء لا يتكرر إلا مرة واحدة في السنة، وربما أقل. هكذا نشأ جيل كامل في حضن الأمهات والجدات، في رعاية الساكنة التي لم تكن مجرد جيران، بل عائلة كبيرة واحدة، تُغني الفرد عن غياب أبيه، وتمنحه من التضامن ما يكفي لئلا يشعر باليتم.
كان للفكر البدوي حضوره الطاغي في ذلك الزمن: احترام الكبير واجب لا يناقش، ومكانة الشيخ محفوظة في كل مجلس. لم تكن القوانين مكتوبة، لكن قيم البساطة والقناعة رسمت حدودا أخلاقية أكثر صرامة من أي دستور. الكبير له مقامه، الصغير له حدوده، والكل يلتقي عند فضيلة الاحترام المتبادل. ومن رحم ذلك الانضباط الأخلاقي، تفتحت شخصية جيل آمن أن العيش قليل الموارد لا يعني أبدا فقرا في القيم أو ضحالة في المعنى.
رغم ضيق ذات اليد، كان هؤلاء الأطفال والشباب يتحركون بنخوة وأنفة، تحكمهم قواعد صامتة من الاحترام المتبادل. لم يكن يسمع من أفواههم كلام ساقط أو تصرف صبياني. حتى الفتيات، وهن في قمة براءتهن، كن يبتكرن حيلة خاصة للسباحة: يستيقظن باكرا قبل بزوغ النهار، ويتوجهن بعيدا نحو السفينة الراسية(البَاطُو) عند تخوم الشاطئ، يسبحن بملابسهن بعيدا عن الأعين، في انسجام تام مع منظومة الحياء التي كانت تحكم المجتمع.
كان الشاطئ فضاء رياضيا بامتياز. طوال النهار تقام مباريات كرة القدم على الرمال الساخنة، وفي الليل تنقلب الخيام إلى مسارح صغيرة للغناء والسمر والأنشطة الجماعية. لا شيء كان يعكر صفو ذلك الزمن.
في المقابل كان هناك مخيم خاص بالعائلات محاط بسياج تتوسطه خيام للمواد الغذائية، مزود بالماء الصالح للشرب (سقاية)، وتحيط به الحراسة (خيمة للقوات المساعدة)، ومراحيض للرجال وأخرى للنساء، والناس ينعمون بانضباط طبيعي قوامه العرف أكثر مما هو القانون.
إن تجربة شاطئ الطنطان في تلك الحقبة لا يمكن قراءتها كذكرى شخصية فحسب، بل كجزء من الذاكرة الجماعية لأبناء المدينة. فهي تكشف كيف استطاعت بساطة العيش أن تتحول إلى فلسفة كاملة للحياة، وكيف وُلدت السعادة من رحم الهشاشة. لم يكن البحر مجرد مياه مالحة، بل كان مسرحا كبيرا تتجسد فيه قيم هذا الجيل: الاحترام، التضامن والعلاقة المتوازنة مع الطبيعة.
هكذا يظهر لنا شاطئ الوطية ليس كجغرافيا فحسب، بل كفضاء ثقافي واجتماعي، يشهد على مرحلة من تاريخ الطنطان، حيث كان الناس أكثر فقرا ماديا، لكنهم أغنى إنسانيا وروحيا. وهو ما يجعل من تلك الحقبة اليوم، في المخيال الجمعي، زمنا ذهبيا توقف عنده الزمن، وبقي حيا في الذاكرة إلى الأبد..