نعيمة بنعبد العالي: ما نا إلا بشر.. ما يفلت من الذكاء الاصطناعي

نعيمة بنعبد العالي: ما نا إلا بشر.. ما يفلت من الذكاء الاصطناعي نعيمة بنعبد العالي

بين الطين والخوارزمية، هناك رجفة لا يبرمجها شيء. تردّد في الحركة، التفافة غير متوقّعة، نزوة قلب…
هناك يسكن بشر: ذلك الفائض من العفوية والضعف، الذي يتسلّل من بين أدقّ الدوائر.
وربما يكون هذا بالذات ما سينقذ الإنسان، كلما ظنّ أنه لم يعد سوى خوارزمية

 

تقديم

يستكشف هذا النص الفارق الدقيق بين الإنسان — الكائن الذي صاغته الثقافة والذاكرة الجمعية — والبشر — الكائن المجبول من لحم ورغبة ومصادفة. ومن خلال صور مستوحاة من الأساطير والحكايات الشعبية والأنثروبولوجيا، يتأمل النص حدود الذكاء الاصطناعي: ما يمكنه تقليده، وما يستحيل عليه إدراكه، وما يظلّ غائبًا عن وعيه.إنها تأملات تمزج الفلسفة بالابتسامة، حيث تلتقي الطرق المعبدة بالمسالك الجانبية، ويُدعى القارئ للتفكير في ذلك الجزء العصِيّ من ذاته الذي لا تطاله أي خوارزمية.


قد يأتي يومٌ يتمكّن فيه الذكاء الاصطناعي من تقليد أصواتنا بدقّة، والتقاط حركاتنا وإيماءاتنا، وحتى تردّداتنا الصامتة. قد يكتب مثلنا، ويرسم مثلنا، ويفكّر مثلنا. وربما يحفظ قصصنا، ويتوقّع رغباتنا، ويعيد إنتاج اختياراتنا. لكن هل سيعرف يومًا أن تحمرّ وجنتاه من كلمة جارحة؟ أو أن يغيّر مساره فجأة بسبب رائحة خبز خرج للتوّ من التنور؟ أو أن يتوقّف تحت شجرة فقط ليصغي إلى همس الريح؟

في العربية، نميّز بين الإنسان والبشر.

الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يُحاكي الإنسان لأنّه منظم، تحكمه بنى وقوالب يمكن رصدها.
لكنّ البشر يعيش في منطقة أخرى: في الفوضى الصغيرة، في الملمس، في حرارة اللحظة، حيث الحسابات تفقد قيمتها.

الطرق والمسالك

الذكاء الاصطناعي بارع في رسم الطرق: مستقيمة، مرصوفة، محسوبة المسافة والوقت. يعرف كيف يلتزم بالخريطة، أو يبتكر خريطة جديدة بنفس الصرامة.أمّا البشر فيعرف المسالك: تلك التي وُلدت من أثر الأقدام، ومن انحرافات الضرورة، ومن خطأ تحوّل إلى عادة. المسالك ليست مرسومة سلفًا، بل تولد من التجربة والمغامرة.

كما يعرف الرواة في المجتمعات الشفوية أن الحكاية لها خط أساس، ولكنّها تنحني وتتمدّد وفق الجوّ، ووجوه الحاضرين، وصرخة طفل أو نوبة ضحك في آخر المجلس. الذكاء الاصطناعي يحفظ الخط، أمّا البشر فيبتكر الانحناءة.

العقل والمكيدة

في اليونان القديمة، فرّقوا بين الصوفيا (الحكمة النظرية) والميتيس (الدهاء والقدرة على المراوغة). الأولى تسير على قواعد ثابتة، والثانية تلتقط الفرصة، وتحوّل المأزق إلى مخرج، وتستغل الفوضى لصالحها.
الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ، يظلّ أقرب إلى الصوفيا: نظام يحسب ويقيس ويجمع.
أمّا البشر فيعيش في الميتيس: يبني قاربًا من الحطام، ويحوّل الفخ إلى مأمن، ويضحك في اللحظة التي ينتظر فيها الجميع البكاء.

الصدفة، معلّم البشر

بالنسبة للذكاء الاصطناعي، الصدفة ضجيج ينبغي خفضه أو مسحه. بالنسبة للبشر، هي أستاذ غامض ورفيق قدري.


في الأساطير الإغريقية، كانت الإلهة تيخي (الحظ) قادرة على قلب مصير أيّ إنسان، دافعة إيّاه إلى إعادة اختراع نفسه. وفي الملاحم الإسكندنافية، كانت العاصفة التي تغيّر مسار السفينة سببًا في ولادة تحالف أو اندلاع ثأر. وفي التصوّف الإسلامي، هناك التيه: ضياع يُقصد لذاته، لأنّه يفتح أبوابًا لم نكن نعرف أنّنا نحتاجها.

وفي الحكايات الشعبية، كثيرًا ما تكون الصدفة هي الخلاص: صيّاد يعثر بلا قصد على عفريت في قارورة، جحا يضلّ الطريق فيصل إلى البيت المطلوب، شهرزاد التي لم تكن تخطّط لكلّ حكاية مسبقًا، بل تستلهم أحيانًا من أحداث اليوم السابق.

النفَس والطين

أساطير الخلق كلّها تشير إلى هذه الفجوة.

في الميثولوجيا الإغريقية، شكّل بروميثيوس الإنسان من طين، لكن النار المسروقة من الآلهة هي التي منحته الدفء والشغف. وفي أسطورة الغولِم في التراث اليهودي، تبقى المخلوقات الطينية صامتة ما لم يوضع تحت لسانها اسم مقدّس، فإذا أُزيل، عادت جمادًا.

الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يصنع الطين، ويقلّد النار، ويولّد الكلمات. لكن النفَس — ذلك المزيج من الحياة والعاطفة والفوضى — يسكن في جهة البشر.

 

فجوة

حتى في أعتى أنظمة الذكاء الاصطناعي إحكامًا، توجد فجوة صغيرة بين أسنان عجلته الصمّاء، حيث يمرّ نسيم منحرف. وهناك، بالضبط، يتسلّل البشر. يحملون معهم نزواتهم: تورتة التوت التي تُشترى بدل كعكة الشوكولا المطلوبة، الطريق الجانبي الذي يُسلك لمجرّد مشاهدة غروب، كلمة تُختلق في لحظة عبثية.

والذكاء الاصطناعي، رغم سرعته وبراعته، يبقى كائنًا مهذّبًا، صبورًا، لا يملّ ولا يتذمّر، ولا يخطر بباله أن يخدع أو يراوغ.


أمّا البشر، فيعرف أن الحيلة أحيانًا طريق النجاة، وأن المراوغة قد تكون فنًّا، وأن الكذب الأبيض قد يفتح بابًا لم يكن في الخريطة.

وربما لهذا السبب، سيظلّ البشر يجدون في حياتهم مساحات لا تطأها أقدام الذكاء الاصطناعي.