سعيد عاتيق: الطعريجة والكمان يزيحان الثقافة من منصة التنمية

سعيد عاتيق: الطعريجة والكمان يزيحان الثقافة من منصة التنمية سعيد عاتيق
تعد الثقافة مرآة صادقة تعكس واقع الشعوب وتجسد هويتهم، فهي ليست مجرد موروث تقليدي، بل كيان حيّ ينبض بروح الأمة ويعبر عن قيمها ولغتها وتاريخها. ولأجل صيانتها من العبث والضياع، لا بد من ترسيخها في عقول الأجيال من خلال التربية والتعليم، والحفاظ على التراث بمختلف صوره، ومواجهة مظاهر التغريب والتقليد الأعمى. كما يعد دعم المثقفين والمبدعين خطوة ضرورية لإنتاج ثقافة معاصرة نابعة من الهوية، وكذلك توظيف الإعلام لنشر الوعي الثقافي وتعزيز الانتماء الوطني. وعندما تكون الثقافة نابعة من وجدان الأمة، متفاعلة مع غيرها دون أن تفقد أصالتها، فإنها تصبح عنوانًا لها ومصدر فخر لأبنائها، بل وتسهم في إثراء الحضارة الإنسانية. وهكذا، تبقى الثقافة الحصن المنيع الذي يحمي الشعوب من الذوبان في هويات الآخرين، ويجعل لكل أمة طابعها المميز وصوتها الخاص في العالم.
لكن ومع عميق الأسف حين تزاح الثقافة بـ"الطعريجة" ويُحتفى بالكمانجا وسط العطش نكون انسلخنا عن ثقافتنا وعن ذواتنا إذ في كل صيف، يعاد طرح السؤال ذاته، لكن بصيغة ساخرة هذه المرة: هل المغرب أجمل بلد في العالم، حقًا؟
يروج الكثير من الخطابات الرسمية والشعبية لفكرة أن المغرب "بلد الأولياء والصالحين"، بلد البركات التي تحميه من المكروه وتحفظ الأمة من كل سوء، كما لو أن القداسة وحدها كافية لضمان الحياة الكريمة. لكن في المقابل، لا يجد مواطن بسيط في بعض القرى نقطة ماء تروي عطشه، ولا طريقًا معبدًا يسلكه بكرامة، بينما تقام "المواسم" و"المهرجانات" بكل كرم وسخاء عنوانه الكبير البذخ والإسراف والعبث بمال الشعب .
 
الصيف، هذه المحطة التي من المفترض أن تكون متنفسا، تحولت إلى موسم للمفارقات: على منصات المدن والمداشر ترفع نغمات الكمااانجااا والطعريجة، ويتراقص الجسد على ألحان الدربوكة، بينما تتوارى الثقافة الحقيقية، ويغيب الكتاب، ويهمش الفن الراقي، ويقصى المبدع لصالح من "يهزّ البوط" في مشهد صاخب لا يأبه بالأرض التي لا تزال تئن من العطش والفقر.
 
لقد نجحت "الكامانجا" في إزاحة القلم، وتفوقت الطعريجة على الحبر، بل وتطاول الناي على الريشة، حتى أصبحت "القعدة" و"هزان البوط" البديل الأوحد لكل ما تبقى من محتوى ثقافي جاد. وفي الوقت الذي تنظم فيه السهرات بدقة متناهية وتنفق عليها أموال طائلة من المال العام  تفشل الجماعات والعمالات نفسها في شق طريق قروي بسيط أو في إيصال ماء الشرب إلى ساكنة تعاني العطش.
من الطبيعي أن تقام مهرجانات، وأن يحتفى بالفنون الشعبية، فهذه جزء من هوية المغاربة، لكن ما ليس طبيعيًا هو أن تتحول هذه الأنشطة إلى أولوية وطنية عليا، في مقابل تراجع الاستثمار في البنية التحتية، والتعليم، والثقافة الحقيقية.
كيف يعقل أن تبرمج أنشطة صاخبة في مناطق تفتقر لمستوصف، لمدرسة محترمة، أو حتى لحاوية نفايات؟
ما يحدث ليس مجرد اختلال في البرمجة، بل هو اختلال في الرؤية: حين تقدّم الفرجة على المعرفة، وحين يكرم "الشيخ الكوامانجي بينما يقصى المثقف، فإننا أمام صورة مجتمع يعاد تشكيل وعيه عبر بوابة التسلية بدلًا من الوعي.
وفي النهاية، يعاد تكرار الجملة المأثورة: "المغرب أجمل بلد في العالم".
 
نعم، المغرب جميل، بجغرافيته، بتاريخه، بتراثه، وبناسه الطيبين. لكن هذا الجمال لا يعفي من طرح الأسئلة الصعبة، ولا يجب أن يكون عذرًا لإخفاء العيوب أو التستر على التقصير.
الناس عطشى...
الناس جوعى...
الناس بلا مأوى...
لكن الكمانجا والطعريجة كفيلة بسد الشرووووخ والثقوب وهذا في المغرب وبس.
سعيد عاتيق، فاعل سياسي