في استشكال قضية الذوق العام، الذي يُقصد به كل تجارب الإنسان التي يُفسَّر على ضوئها ما يُحِسُّه أو يُدرِكه من الأشياء، يجب، قبل التوقف عند معنى "الذوق العام" في ثقافتنا، العودة إلى معجم المعاني، والوقوف على معنى "الذَّوق"، حيث تم تعريفه بأنه: آدابُ السلوك التي تقتضي معرفة ما هو لائق أو مناسب في موقف اجتماعيّ معين. يُقال: حَسَن الذوق، وقليل الذوق: أي خشن المعاملة.
كل هذه المعاني تصب في سياق واحد، مفاده أن الذوق هو حسن اختيار الشيء، وقد يكون عن طريق الإحساس أو الإدراك، أي إدراك الشيء بالعقل، أو بمعنى آخر: سمو قيم الجمال والاحترام، في زمنٍ تلاشت فيه القيم وانهار فيه الذوق العام.
إن المتتبع لحياتنا الثقافية والاجتماعية يستشعر ما نعنيه بتراجع الذوق العام أو استباحته، خاصة أمام السيل الجارف للثقافات الدخيلة، التي تنخر المروءة وتخدش الذوق العام. فالذوق العام ينبني على سلوكيات واختيارات وقواعد تعكس هوية المجتمع، وتحافظ على الذوق السليم للقيم المشتركة، التي تضبط طريقة التعبير والتعامل مع الآخر، وسلوكيات الفضاء العام التي يتوافق عليها الناس.
لكن، قبل أن نكتشف ما يعتري ثقافتنا اليومية، علينا أن نتساءل، والسؤال مشروع هنا:
هل غياب الذوق العام مؤشر على انهيار المنظومة القيمية في المجتمع؟
ما دور الأسرة والمدرسة في ترسيخ قيم وسلوكيات تحترم الذوق العام؟
ما أبرز المظاهر التي تدل على تراجع الذوق السليم داخل المجتمع؟
وهل فقد الفن جماليته في ظل الاستسهال والتسليع؟
كلها تساؤلات تتقاطع في نقطة واحدة: أن المجتمع الحالي يعيش متغيرات على جميع الأصعدة، بدءًا من السلوكي، إلى الهوياتي، وصولًا إلى القيمي.
إن التفاعل اليومي مع مختلف القضايا والأحداث الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية... هو انعكاس مباشر لما نعيشه من تردٍّ وفوضى تعصف بكل ما يحمل سمة الجمال والإبداع، مما يُفسِّر أن هذا التفاعل في الغالب سلبي أكثر مما هو إيجابي.
فما قيمة الحياة دون احترام الآخر؟ رغم اختلافنا معه، فاحترامه واجب أخلاقي. ليس المقصود التوافق التام أو الانسجام الكامل، بل الحد الأدنى من الاحترام، الذي يجب أن يحكم أي علاقة إنسانية. احترام لا يلغي الاختلاف، بل يُؤطره، ويجعل منه فرصة للتكامل لا للتصادم.
لكن، للأسف، هذا الاحترام يتراجع يومًا بعد يوم في مجتمعنا الحالي، حيث صرنا نمارس الإقصاء بدل الحوار، والتسفيه بدل النقاش، والاستعلاء بدل الفهم. ندهس على مشاعر الآخرين باسم "الحرية الشخصية"، ونخدش الذوق العام باسم "الجرأة". ذلك الذوق الذي تحكمه أخلاق وقيم إنسانية مشتركة، تشكّلت ونمت عبر أزمنة، لتكون صمام أمان لحياتنا العامة والخاصة، ومنها تشربنا معاني الحب والإخلاص، والاعتراف والوفاء، وغيرها من القيم الإنسانية.
نعيش اليوم في فضاء عام أصبح صاخبًا ومشوَّشًا، تغيب عنه الملامح الأصيلة والمعاني الجميلة. دعنا نتوقف قليلًا ونلقي نظرة سريعة على ما يُنتَج اليوم من موسيقى وأعمال درامية وسينمائية، لندرك أن هناك أزمة حقيقية في الذوق العام. فالموسيقى صارت أقرب إلى ضجيج بلا روح، وغابت عنها الكلمة الراقية واللحن العميق. الكلمات أصبحت سطحية، بلا إحساس، ولا رؤية.
نحن بحاجة اليوم إلى إعادة بناء الذوق العام، ليس عبر قوانين تُفرض، بل من خلال وعي يُبنى، وتربية تُغرس في البيت والمدرسة والإعلام. نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار للجمال، وللكلمة، وللفكرة، وللفن الحقيقي، وللمعنى العميق للإنسانية.
قد لا نغير الواقع بجملة أو كتابة، ولكن لا بد أن نبدأ من مكانٍ ما، أن نرفع الصوت، أن نتمسّك بما تبقى من جمال وقيم. فالذوق العام ليس ترفًا، بل هو صمام أمان يضبط إيقاع حياتنا.