أحمد الحطاب: الافتخار ب"وَالُو"

أحمد الحطاب: الافتخار ب"وَالُو" أحمد الحطاب
توضيحاً لعنوانِ هذه المقالة، أقول ما يلي : عندما يفتخِر أو يتباهى شخصٌ ما بأشياء غير موجودة على أرض الواقع، يُقال عنه إنه "مُتباهٍ" أو "مُتبجِّحٌ". والتَّباهي والتَّبجُّح صفتان قبيحتان، أي غير مرغوب فيهما أخلاقياً واجتماعياً. والسياسيون السياسويون، هم من أمهرِ المُتباهين والمُتبجحين. والمقصود، في هذه المقالة بالساسيين السياسويين، هم الناس الذين اقتحموا أو استعمَروا عالمَ السياسة، دون أن يعرفوا أيَّ شيء عنه. بل إنهم بارعون في استعمالِ الغشَّ والتَّزويرَ والكذبَ والثرثرةَ le bavardage. والثرثرة هي التي جعلت منهم، كما سبق الذكر، أمهرَ المُتباهِين وأذكى المتبجِّحين، علماً أن التباهي والتبجح أساسهما الكلام المعسول الذي، إذا وصل إلى الآذان، يُفرِح ويُثلِج الصدرَ ويرفع المعنويات remonte le moral،  ويجعل السامعين يعيشون في عالمٍ افتراضي كلُّه سعادة وأمل.
 
ولعلَّ خير مثالٍ يمكن الاستشهادُ به، في هذا الصدد، هم السياسيون السياسويون الذين يحكمون، حالياً، الجزائر. إنهم قدوةٌ لكل مَن أراد أن يصبحَ بطلاً في التباهي والتَّبجُّح. فما عليه إلا أن يُنصِتَ لخطاب وكلام شخصيتين بارزتين في المشهد السياسي الجزائري، وهما رئيس الجمهورية الجزائرية ورئيس أركان الجيش الجزائري. الأول بارع في الكذب المعزول عن الزمان والمكان، والثاني بارِع في الخطابة والتضخيم. وهما معا يتقنان فنَّ التباهي والتبجُّح.
 
مراتٍ ومرات، كذِب رئيس الجمهورية الجزائرية على الشعب الجزائري، لكن الواقع الذي يعيشه هذا الشعبُ يكذِّبه بانتظام. قال كل مواد الاستهلاك اليومي، الأساسية، مُتوفِّرة في الأسواق. لكن الواقع كذَّبه، بحكم الطوابير les    files الامتناهية للحصول على كيس حليب أو قنينة زيت أو نصف كيلو من العدس… قال المنظومة الصحية le système sanitaire الجزائرية هي أحسن منظومة في العالم. لكن جائحة كورونا كذبت أقوالَه إذ لم تستطع هذه المنظومة مواجهة هذه الجائحة لا من حيث توفير اللقاح ولا من حيث توفير الأكسجين للمرضى. قال الجزائر ليس فيها أزمة عطش. لكن انتشار شاحنات توزيع الماء الشروب كذب أقواله. قال للمواطنين، قريبا الجزائر ستجمعها بإيطاليا شراكة لصنع سيارات فياط FIAT فوق التراب الجزائري. إلى حد الآن، لم تر النورَ هذه الشراكة. قال الانضمام إلى مجموعة بركس BRICS مضمون، فإذا بهذه المجموعة توجِّه له صفعةً لن ينساها، وذلك رغم وجود جنوب أفريقيا، الحليف اللامشروط للجزائر، في هذه المجموعة. قال سنرفع من قيمة الدينار الجزائري، فإذا بهذا الدينار يفقد، يوميا، قيمتَه النقدية، وبالتالي، ما كانت تستورد الجزائر من مواد استهلاكية بقيمة الدينار الماضية، أصبحت مجبرةٍ باستيراده بثمن مضاعف مرتين أو ثلاثة. قال كل الديمقراطيات الموجودة حاليا في أوروبا، وُلِدَت في الجزائر، أي كأن الجزائر هي مهد الحضارات. ما يبيِّنه التاريخ، هو أن الجزائر خضعت للدولة العثمانية مدَّةَ ما يناهز أربعة قرون وبدأ هذا الخضوع في القرن السادس عشر، ثم خضعت للاستعمار الفرنسي مدَّة ما يزيد عن 130 سنة. فمتى ترعرعت الديمقراطية في الجزائر،  علماً أنها لم تظهر في أوروبا إلا بعد الحرب العالمية الثانية، أي خلال النصف الثاني من القرن العشرين؟
 
أما رئيس أركان الجيش الجزائري، أمرُه غريب إلى أقصى حد. لماءا؟ لأنه، عادةً وحسب الأعراف المتعارف عليها دولباً، الجيش لا يتدخَّل في الأمور السياسية، أي ليس من مهامه تدبير الشأن العام. سر وجود الجيش، في جميع أنحاء العالم، هو الدفاع رقعة التراب الوطني وحماية المواطنين من كل اعتداءٍ أجنبي والمحافظة على أمن أو سلام البلاد، بصفة خاصة، وعلى السلام الدولي، خارج حدود البلاد، عبر المهام التي تُحدِّدها الأمم المتحدة.
غير أن رئيس أركان الجيش الجزائري يبدو وكأنه ركنٌ من أركان تسيير وتدبير الشأن العام الجزائري، سياسياً. لماذا؟ لأنه موجود وحاضر، تقريبا، في كل المحافل المدنية التي، عادةً تندرج في خانة تدبير الشأن العام والتي، عادةً، لا دخل للجيش فيها. 
 
والدليل على ذلك، أن رئيس أركان الجيش الجزائري، يكاد لا يمر يومٌ بدون أن يوجِّهَ فيه خطابا إما للجيش وإما للشعب الجزائري. والطامة الكبري أن محتوى هذه الخطب، جزء كبير منه، له علاقة بالتنمية والاقتصاد… التي، هي، عادةً، من اختصاص الحكومة والبرلمان. 
 
وكرئيس الجمهورية الجزائرية المتخصِّص في الكذب، فإن رئيس أركان الجيش الجزائري، هو الآخر يكذب، لكن بطريقة، قد نقول مؤدبة شيئا ما. فعوض أن تكونَ خطبُه عبارة عن كذب معزول عن الزمان والمكان، فإن هذه الخُطب عبارة عن جملٍ تُضخِّم amplifie ou gonfle كلَّ شيء. تُضخِّم الجيش، البلاد، التنمية، الاقتصاد، التاريخ، الماضي، الاستشهاد من أجل استقلال البلاد… وباختصار، خطب رئيس أركان الجيش الجزائري لا تُسمن ولا تُغني من جوع، لأنها عبارة عن إنشاء قادرُ على صياغتِه تلميذٌ من مستوى المتوسِّط الثاني بالمدرسة الابتدائية.
 
أما إذا أخضعنا خطبَ رئيس أركان الجيش الجزائري لتحليلٍ لغوي منطقي، فسنجد أنها خاوية الوفاض وخالية من خيطٍٍ ناظمٍ un fil conducteur، ولا يوجد فيها موضوعٌ يستحق الاهتمامَ. 
 
وتضخيم الخطاب يبدو أنه أصبح من اختصاص قادة الجزائر.  بمعنى أن كلَّ قياديٍّ يدلو بدلوِه في هذا الشأن. علما أن كذبَ رئيس الجمهورية الجزائرية و تضخيم خُطب رئيس أركان الجيش الجزائري لن يُغيِّرا شيئاً لا في وضع البلاد، التنموي والاقتصادي، ولا في وضع الشعب الجزائري المحروم من حقوقه المشروعة في العيش الكريم. لماذا؟
 
لأن الشعب الجزائري يرى بأم عينه،  من جهة، الفرق الشاسعَ بين خُطَب رئيس الجمهورية الجزائرية ورئيس أركان الجيش الجزائري، ومن جهة أخرى، بين هذه الخطب والواقع المر الذي يعيشه الشعب الجزائري. وهل هناك شيءٌ أفصح من الواقع. والواقع لا يكذب، بمعنى أنه لا يمكن تغييرُه إلا بالعمل وليس بالأقوال والشعارات الرنانة. ولهذا، فهذا النوع من الكذب قد يحرك المشاعر والأحاسيس، لكن سرعان ما يتغلَّب عليه الواقع، المحسوس والملموس على الدوام.