وتكمن صعوبة، بل وخطورة التحديات التي أفرزها قيام نظام ثيوقراطي صرف في طهران فيما يلي:
*استحالة تجاوز إيران أو إقصائها وعزلها عن أي مشروع إقليمي موسع مهما كان موضوعه أمني أم سياسي أو اقتصادي(2)، وذلك نظرا لمساحتها الشاسعة، ولموقعها الجغرافي، "فهي بوابة الهند البرية، والحاجز بوجه التوسع الروسي في آسيا الوسطى"(3)، ويمكن القول نحو مياه الخليج الدافئة أيضا، فضلا عما تمتلكه في باطن أرضها من ثروات منجمية غازية وبترولية، وما تتوفر عليه من طاقات بشرية، وما تتمتع به من رصيد فكري وحضاري رفيع.
* ما تضمنه صراحة خطاب الثورة والقوانين التأسيسية للجمهورية من أبعاد توسعية، وشرعنة للتدخل في شؤون الداخلية للعديد من الدول انطلاقا من ادعاء زعيم هذه الثورة لإمامة المسلمين، لكونه كما وصفه الدستور الإيراني في المادة 5 الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير(4)، فضلا عن استعداده لوضع إمكانيات البلاد رهن إشارة من أسماهم الدستور الإيراني بالمستضعفين.(5)
ويستند ادعاء هذه الإمامة التي جرى الترويج لها على نطاق واسع على نظرية ولاية الفقيه التي طورها آية الله الخميني في مجموعة من كتاباته أبرزها كتاب "الحكومة الإسلامية"(6) الذي تضمن عددا من محاضراته في النجف الأشرف سنتي 1969 و1970، وهي المحاضرات التي حرص في بدايتها على تفنيد أسس نظرية الانتظار (انتظار العودة المرتقبة للإمام المهدي الغائب)، التي ميزت الفكر السياسي الشيعي منذ الغيبة الكبرى، وتبناها بعض المشايخ لتحريم العمل السياسي أو الاقتراب منه، مستندين في ذلك على قول كان مأثورا كحديث بين شيعة آل البيت ثبت أنه ضعيف للغاية إن لم يكن منتحلا، ومفاده "كل راية تخرج قبل ظهور المهدي فهي راية ضلالة وصاحبها طاغوت"(7).
ومقابل تفنيد نظرية الانتظار، التي اعتبرها سلبية ومتخاذلة أعاد الخميني الاعتبار لكل من نظرية الإمامة الإلهية المخولة من العناية الربانية لآل البيت، والتي يقول عموم الشيعة بأنها عندهم في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم مثلها بعد عصره، فهي من أهم المصالح العامة بعد النبوة(8)، ثم لنظرية النيابة العامة، وذلك لإيجاد توطئة فكرية وفقهية لما كان يصبو إليه شخصيا من تولي قيادة مطلقة بمسحة دينية تمنحه صفة الضامن لاستمرار وتطبيق "الشريعة السماوية بشكلها النزيه، لكي لا تحرفها الأيادي الخبيثةّ(9).
وتعود أهمية تسليط الضوء مجددا وبشكل إيجابي على نظرية الإمامة الإلهية لكونها ترفض مبدأ الشورى كطريقة لانتخاب الإمام، وتحصر الحق بالخلافة وقيادة المسلمين في آل البيت على اعتبار أنه منصوص على أحقيتهم في الإمامة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وعلى عصمتهم من الزلل وخلافه أيضا. ويستند أصحاب هذه النظرية، الذين جعلوا الإمامة من أصول الدين(10) بشكل خاص على واقعة الغدير التي يقول فيها الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان بن المعلم أبي عبد الله العكبري البغدادي 336/413 هجرية) في كتابه الإفصاح في إمامة علي بن أبي طالب "إن الرسول أعطى للإمام علي في غدير خم حقيقة الولاية وكشف به عن مماثلته في فرض الطاعة.... فحكم له بالفضل على الجماعة والنصرة والوزارة والخلافة في حياته وبعد وفاته والإمامة له"(11).
وعلى هذا الأساس ربطت هذه النظرية بين النبوة والإمامة على نحو تكون فيه الثانية استمرارا أو تتميما
1
للأولى(12) مؤكدة على وجوب التوريث العمودي للإمامة، قافزة على أول تناقض رئيسي وجوهري واجهها متمثلا في مشايعة ومبايعة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب خلفا لأخيه الحسن بما نسب للإمام جعفر الصادق (الإمام السادس حسب الإثنى عشرية 80/148 هجرية) "لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين، وإنما هي في الأعقاب وأعقاب الأعقاب. هكذا أبدا إلى يوم القيامة"(13)
غير أن التوريث العمودي كركن أساسي من أركان نظرية الإمامة الإلهية سيصطدم بمعطى طبيعي يعرضه لانتكاسة كبرى، متمثلا في وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري دون ولد ظاهر له(14)، وهو المعطى الذي حاول شيعة آل البيت تجاوزه بالادعاء بأن الإمام الحسن العسكري (232/260 هجرية) أخفى سر ازديان فراشه بولد خشية أن يبطش به بنو العباس في المهد، لأنهم كانوا على علم مسبق بأنه المهدي المنتظر الذي سيزلزل عرشهم ويثأر لأسلافه، مستندين على روايات متعددة ضعيفة السند اختلفت حسب الأزمان كان أبرز المشايخ الذين برعوا في سردها هو أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي 306/381 هجرية) ، الذي عاصر فترة الغيبة الصغرى، وأزيد من خمسين سنة من الغيبة الكبرى.
في هذا الصدد يكتب الشيخ الصدوق بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر، أولهم أخي ( الإمام علي بن أبي طالب)، وآخرهم ولدي المهدي(15)، ولم يكتف بذلك بل ذهب إلى حد اختلاق رواية بشأن حديث يقال إنه دار بين الإمام علي الرضا (الإمام الثامن 148/203 هجرية) وشاعر مغمور ثبت أنها رواية تسيء للأئمة أنفسهم، لأنها تنسب إليهم علم الغيب، وتنجيم المستقبل، وهو أمر فيه كفر، ما كان لآل البيت أن يقبلوه على أنفسهم أو على عقبهم.
تقول الرواية أن شاعرا يدعى دعبل الخزاعي ألقى قصيدة غامضة حول عودة المهدي المنتظر بدون تحديد صفاته أو هويته في حضرة الإمام علي الرضا، الذي سأل الشاعر: من هذا الإمام الذي تتحدث عنه، ومتى يقوم؟ وبعد أن رد الشاعر بالنفي قال له الإمام : الإمام بعدي ابني محمد (الجواد)، وبعده ابنه علي(الهادي)، وبعد علي ابنه الحسن(العسكري)، وبعد الحسن الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره(16).
ورغم ضعف هذه الرواية إن لم نقل سريالتيتها، وسريالية ما تلاها من روايات حول إخفاء نبإ ولادة المهدي المنتظر ، وفي غياب أي دليل ملموس على وجوده بدليل الاختلاف الكبير الذي حصل حول شخصية والدته المفترضة وحول تاريخ ازدياده أصلا(17) استمات شيعة آل البيت في الترويج لهذه الرواية، مرددين ما كتبه العديد من مشاهير مشايخهم كما هو الشأن فيما نقل عن الفقيه النوبختي (أبو سهل اسماعيل بن علي 237/ 311 هجرية)، الذي أشار إلى أن"الشيعة قد علموا بوجود أبي الحسن( محمد المهدي المنتظر) بالاستدلال كما عرفوا الله والنبي وأمور الدين كلها"(18).
وبعد التأكد من استحالة رؤية المهدي المنتظر، ناهيك عن خروجه "ليملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا"(19)، وليتولى قيادة الأمة ويضطلع بمهام الإمامة استبدت الحيرة بشيعة آل البيت، الذين كانوا يعتقدون بوجوب استمرارية الإمامة الإلهية إلى يوم القيامة. ولذلك ابتدع جهابذة الفكر الشيعي(20) نظرية غيبة الإمام التي كانت في البداية غيبة صغرى دامت من سنة 260 إلى 329 هجرية(21) عبرت عنها مجموعة من النظريات أبرزها نظرية الحكمة المجهولة المرتكزة أساسا على مقولة الشيخ الصدوق "إن إيماننا بعصمة الإمام المهدي يقتضي منا التسليم بوجود حكمة وراء غيبته"(22) ونظرية التمحيص التي تدعي أن غيبة الإمام امتحان لإيمان شيعة آل البيت وصبرهم، فلا يظهر الإمام إلا بعد غربلة المؤمنين به فعلا عن الأدعياء والمتملقين(23).
وإذا كانت نظرية التمحيص لم تصمد طويلا بحيث لم يتواتر ذكرها بين مشايخ الشيعة كثيرا، فإن أقرب نظرية للتصديق حول الغيبة هي نظرية الخوف على حياة المهدي المنتظر من بطش بني العباس، وهي النظرية التي يرى الشيعة الإمامية أن التقية تغدو معها ضرورية، والغيبة عند الأسباب الدافعة إليها لازمة، لأن التحرر من المضار واجب عقلا وسمعا(24).
2
إن قابليـة تصديـق هذه النظرية حـدت بعدد من كبار شيعـة آل البيت ممن عاصروا الإمامين العاشر والحـادي عشر إلى ترويجها على نطاق واسع واستغلالها للحفاظ من خلالها على ما كان القرب من الأئمة وخدمتهم يدر عليهم من مغانم وامتيازات مادية ومكانة اجتماعية، مدعين أنهم على تواصل مع الإمام الغائب في سردابه(25)، يتلقون تعليماته وينقلونها إلى شيعته.
وقد كان أول هؤلاء المدعو عثمان بن سعيد العمري، الذي عرف كوكيل عن الإمامين الهادي والعسكري في تحصيل نسبة الخمس. ويبدو أن خشيته من ضياع هذه الحظوة المالية، هي التي دفعته إلى تبني رواية غيبة الإمام ليواصل قبض أموال الخمس هذه المرة لنفسه بغطاء ادعاء غيبة الإمام ؛ وما يدعم هذه الفرضية هو حرصه على تأمين انتقال الوكالة والنيابة الخاصة عن الإمام بعد مماته إلى ابنه محمد، الذي ادعى أنه تولاها بأمر من الإمام الغائب.
وإضافة إلى حادثة قيام الوكيل الأول المدعو عثمان بن سعيد العمري في البداية بمبايعة جعفر بن علي (226/271 هجرية)(26) إماما خلفا لأخيه الحسن العسكري، فإن أكبر دليل يكشف عدم صحة ادعاء الوكالة والنيابة الخاصة عن الإمام الغائب المهدي المنتظر، واستغلالها للمصالح الشخصية هو رواية المدعو محمد بن ابراهيم الأهوازي الذي اعترف بأنه ما إن علم بوفاة الإمام العسكري حتى انتقل بما كان قد حصله من أموال لفائدته إلى بغداد واستأجر بيتا على ضفاف دجلة لصرفها على ملذاته وشهواته. ولكنه فضل ادعاء استمرار الوكالة فيه لأنها ستدر عليه دخلا متواصلا إلى حين مماته(27).
وبوفاة النائب الخاص الرابع علي بن محمد السمري سنة 329 هجرية بدا أن نظرية الوكالة والنيابة الخاصة عن الإمام المغيب قد استنفذت أغراضها، وتبعا لذلك أيقن معظم الشيعة الذين عايشوا الإمام الحسن العسكري في حياته ولو لفترة قصيرة بأن غيبة خليفته المفترض ستطول، ولأنهم لم يشككوا أبدا في وجود هذا الإمام، وظلوا يعتقدون بأنه الإمام المهدي المنتظر، وخشية بقاء الشيعة أسرى لظلمات الحيرة لمدة طويلة بدأوا في الترويج لغيبته الكبرى.
وقد جرى ذلك الترويج الذي سعى القائمون إليه لمنع تبعثر الأتباع وتفادي حدوث قطيعة نهائية للشيعة مع الحياة السياسية إلى حين ظهور الإمام المنتظر عن طريق ترديد مقولة مفادها أن هذه الغيبة الكبرى تمت بأمر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وأن الأمر يتطلب ضرورة استمرار الإيمان به ، إذ "لابد من وجود إمام في كل عصر وزمان، ولابد للمسلم أن يعرف صاحب عصره وإمام زمانه، وإلا مات ميتة الكفر والضلال والجاهلية"(28).
وبهذا ترسخت لدى معظم الشيعة قناعة بأن هنالك حاجة مستمرة للإمامة ولو بالتفويض والنيابة ؛ الأمر الذي دفع عددا من الفقهاء إلى فتح باب الاجتهاد والجواز بالقياس لتبدأ بشكل تدريجي عملية تبلور المدرسة الأصولية، التي جسد الرعيل الأول لها الشيخ الحسن بن عقيل العماني المتوفى سنة 369 هجرية، الذي قال عنه الخوانساري بأنه أول من عمل صراحة بالقياسات الحنفية واعتمد على الاستنتاجات الظنية"(29)، واضعا بذلك أولى لبنات المدرسة الأصولية التي مهد الأرضية لها الشيخ الطوسي (أبو جعفر محمد بن الحسن 385/460 هجرية) بتأكيده على أن "الإمام المهدي أخبر نائبه الرابع السمري بقرب رحيله وأمره بعدم الوصية إلى أحد"، مضيفا بأن هذا النائب عندما سئل عن الوصي بعده قال"لله أمر هو بالغه"(30).
ولكن التطور الهام للمدرسة الأصولية في الفقه الشيعي حصل على يد السيد المرتضى علم الهدى (تلميذ الشيخ الحسن بن عقيل العماني 355/436 هجرية)، إذ غدت معه ثم بعده الأساس الفقهي والشرعي لنظرية النيابة العامة أولا، ثم لولاية الفقيه المنبثقة عنها، ومن ثم عرفت انتشارا واسعا بين ربوع الشيعة في أهم مراكز حوزاتهم في مدن الحلة والنجف وكربلاء العراقية، وجبل عامل بلبنان، ومدينة قم الإيرانية حيث تستمر إلى يومنا هذا(31).
ومن الطبيعي وقد فتح باب الاجتهاد أن يتولاه بصفة تكاد تكون حصرية فقهاء وعلماء الدين وحدهم باعتبارهم الأكثر إلماما بمشمول الشريعة الإسلامية، كمجتهدين جامعين للشرئط، وبصفتهم الأكثر دراية بمجريات الحياة الدنيوية، والأكثر تعاملا مع الأوساط الشعبية ومعرفة بما تحتاجه نتيجة تصرفهم في توزيع ثلث ما يتم تحصيله من الخمس والزكاة ؛ الأمر الذي جعلهم مراجع تقتدى من جمهور الشيعة. فالمبتـلى بالحـوادث الواقعة كما يقـول الشيخ المفيد (محمد
3
بن محمد النعمان البغدادي 336/413 هجرية) يجب عليه الرجوع إلى العلماء من فقهاء الشيعة ليعلم عن طريقهم أحكام الشريعة المستودعة عندهم(32).
لهذا لا غرابة في أن يطرأ تطور بارز في أدوار الفقهاء ليضم إلى جانب الإفتاء في مسائل الحياة الشخصية واليومية القيام بمهام القضاء وتنفيذ بعض الأحكام الشرعية كإقامة الحدود، وجمع الخمس والزكاة(33) مرسخين بذلك مفهوم النيابة العامة المطلقة عن الإمام الغائب في أشخاصهم أو يقتسمونها مع من يعتقدون خوفا أو تملقا أنهم أهل لذلك، في دليل واضح على توظيف الدين لأغراض سياسية ولمصالح شخصية في آن واحد.
في هذا السياق تبرز العلاقة بين المحقـق الكركي (علي بن حسين بن علي العاملي الكركي 870/940 هجرية) والدولة الصفويـة، التي حصلت على إجازة منه باعتباره فقيهـا نائبا عن الإمام، لتولي السلطة الزمنية وممارستها كأنها نسخة من دولة الإمام المعصوم(34) من دون أن تحصل الخمس والزكاة، كما تبرز أيضا علاقة الشيخ جعفر كاشف الغطاء (جعفر بن خضر بن يحي النجفي 1156/1228 هجرية) بالدولة القاجارية، الذي أجاز للشاه فتح علي (الشاه الثاني في السلالة القاجارية 1187/1250) ممارسة السلطة كنائب عن الإمام، ولكن اشترط عليه عدم الخروج للجهاد إلا بإذن هذا الأخير أو نائبه الخاص (يعني الفقيه) وحرم عليه إقامة صلاة الجمعة جماعة ما دامت الغيبة قائمة.
ومما لاشك فيه، فإنه استنادا على هذه المواقف الفقهية وما تلاها من فقهاء آخرين تبلور نوع من التمييــز في نظرية النيابة العامة بين أبعادها الدينية الفقهية الصرفة المتمثلة في تنفيذ الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكام الدين كما يراها الفقهاء، وقد ظلت حكرا عليهم، وبين أبعادها السياسية المتمثلة في قيادة المسلمين، وشرعية إقامة دولة لهم في عصر الغيبة كضرورة اجتماعية لا مفر منها، ويمكن للمدنيين ممارستها، خاصة للذين يتوفرون على القوة العسكرية لفرض أنفسهم.
ومع تكريس نظرية النيابة العامة لما يمكن تسميته بالدور الرقابي للفقهاء على السلطة السياسية عن طريق مباركة من يتولاها أو حجب تلك المباركة عنه ترسخت لدى عموم الشيعة فكرة ضرورة الانتقال من مرحلة التقية والانتظار إلى مرحلة وجوب إقامة الدولة في عصر الغيبة، وبدأت تظهر اجتهادات تدعو إلى تعزيز نظرية النيابة العامة وتطويرها نحو حكم الفقهاء بصورة مباشرة.
ولا يختلف اثنان من المهتمين بالفقه الشيعي على أن أبرز الاجتهادات في هذا الإطار تعود إلى الشيخ النراقي(محمد مهدي بن أبي ذر الكاشاني النراقي 1128/1209 هجرية)، الذي أكد على الحاجة الملحة لوجود الإمام شرط أن يكون حجة، عالما، معلما وداعية إلى سبيل الله بصورة ظاهرة، حيوية ومتفاعلة مع الأمة، وليس ضروريا أن يكون معصوما أو منصوصا عليه ومن أسباط رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشيرا إلى أنه في غياب الإمام فإن "كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم فهو وظيفة للفقيه، وله التصرف فيه والإتيان به"(35) ؛ الأمر الذي اعتبره عدد من الباحثين ليس فقط تحررا من نظرية التقية والانتظار، وإنما تخلي أيضا عن نظرية الإمامة الإلهية)36)، إذ أجاز أن يكون الإمام من غير آل البيت.
وإذا كان الشيخ النراقي كواحد من أوائل المجتهدين في تطوير نظرية النيابة العامة نحو تكريس أحقسة الفقهاء في الولاية قد انطلق من سرد أحاديث وروايات ثبت أنها مختلقة كالحديث المنسوب إلى الرسول الكريم "اللهم ارحم خلفائي، الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسنتي"(37)، فإن آية الخميني استند للمزيد من ترسيخ نظرية حق الفقهاء في النيابة العامة وتطويرها فيما بعد إلى ولاية الفقيه على حديث منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم ثبت أنه ضعيف للغاية إن لم يكن منتحلا يقول"الفقهاء ورثة الأنبياء وحصون الأمة وخلفاء الرسول"(38).
والواضح أن آية الله الخميني لم يكتف في سبيل الترويج لنظريته بتأويل الأحداث والوقائع التاريخية وما يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو ينسب إليه ولأئمة آل البيت من بعده من أحاديث ومقولات، وإنما استغل أيضا التطورات السياسية التي عاشتها إيران إبان القرن 19 وبدايات القرن العشرين، وما ميزها من استبداد مطلق للملوك القاجاريين وآل بهلوي من بعدهم، الذين عملوا على توسيع صلاحياتهم بلا حدود، غير آبهيـن ما إذا كانت متوافقـة مع أحكـام الشريعة أم غيـر
4
متوافقة، ضاربين عرض الحائط بما كان يصدر عن الفقهاء والعلماء من فتاوى لا تناسب طموحاتهم.
لقد اعتبر آية الله الخميني أولئك الحكام مغتصبين للسلطة مدعيا انتفاء شروط قيادة المسلمين فيهم، وخاصة شرطي العلم والعدل اللذان لا يتوفران حسب فكره سوى في الفقهاء. ولذلك لم يذخر أي جهد في التحريض على هؤلاء الحكام، داعيا إلى العمل من أجل إقامة حكومة إسلامية، معتبرا أن كل من يرى عدم ضرورتها ناكرا لوجوب تنفيذ الإسلام، وساعيا إلى تعطيل أحكامه وتجميدها، وبالتالي غير مؤمن بخلود مبادئ الدين الإسلامي الحنيف(39).
وكما هو معلوم فقد قاد آية الله الخميني عملية التحريض على قيام ثورة في إيران شاركت فيها معظم شرائح المجتمع وقواه السياسية الإسلامية منها والعلمانية بشقيها اللبرالي والاشتراكي انتهت سنة 1979 بطرد الشاه محمد رضا بهلوي في البداية، ثم باستيلاء رجال الدين على السلطة واستئثارهم بها ليعلنوا البدء في تأسيس جمهورية ثيوقراطية، وذلك بعد التخلص من حلفائهم أثناء الثورة، وفي مقدمتهم حركة الحرية بقيادة مهدي بازرغان الذي ترأس أول حكومة بعد نجاح الثورة.
إن أولى الخطوات في اتجاه إحكام السيطرة المطلقة لرجال الدين، وللولي الفقيه بصفة خاصةعلى كل مؤسسات الدولة برزت أثناء الاستعداد لاستفتاء شعبي حول تأسيس جمهورية إسلامية أو عدم تأسيسها، إذ رفض آية الله الخميني العائد آنذاك منتصرا من منفاه الباريسي اقتراح مهدي بازرغان إضافة خيار ثالث أمام المشاركين في الاستفتاء يتمثل في بناء جمهورية ديمقراطية إسلامية. وقد كان رفضه صارما، مؤكدا على أن الأمة تريد جمهورية إسلامية لاديمقراطية ولا غيرها، مشيرا إلى أن من ينادون بمثل هذه المصطلحات لا يعرفون شيئا عن الإسلام، الذي هو كل شيء، وكلمة كاملة(40).
وبالفعل فقد زكى الاستفتاء الشعبي الذي جرى يوم فاتح أبريل 1979 وبنسبة 99% أطروحات الخميني ليتم بعد ذلك وضع دستور للجمهورية الإسلامية كرس إمامة الولي الفقيه كأعلى سلطة دستورية في البلاد استطاع من خلالها آية الله الخميني ممارسات صلاحيات مطلقة بلا أي خضوع للمساءلة، سلطات تجاوزت على أرض الواقع كل الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور وكل الحدود الموضوعة بين السلطات، مما مكنه كمرشد أعلى من التدخل مباشرة وبالأمر في أعمال كل من مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور ورئاسة الجمهورية رغم أن الرئيس منتخب مباشرة من الشعب، الذي يفترض أنه صاحب السيادة.
ولهذا ذهب عدد من الباحثين إلى القول بأن آية الله الخميني قام عمليا بإلغاء الدستور نفسه انطلاقا من إيمانه بأن شرعية الولي الفقيه غير مستمدة من الأمة، وإنما هو معين من الإمام المهدي الغائب(41)، وبالتالي فهو معصوم مثله ومثل باقي أئمة الشيعة } الأمر الذي يخوله عند الضرورة إلغاء أي اتفاق شرعي أبرمه مع الأمة إذا تأكد من تناقضه مع مصلحتها، وتنافيه مع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف. فبالنسبة إليه الدليل الدال على وجوب عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم دال على وجوب عصمة الإمام.
ولم يشذ خليفة آية الله الخميني المرشد الأعلى الحالي علي خامنئي عن هذا السلوك المتعالي بل انتقل إلى محاولة ممارسته على عامة المسلمين، كما حصل سنة 1997 عندما احتضنت طهران مؤتمر القمة الإسلامي الثامن، إذ لم يجلس على مقعد إيران، وإنما خصصت له منصة أعلى من مقاعد كل قادة الدول الإسلامية وممثليهم الحاضرين هناك، وألقى كلمة أرادها توجيهية للجميع باسمه، وليس باسم دولته، وهو الأمر الذي استاء منه كثيرون.
يعتقد الكثير من أنصار الفقه الشيعي في مدرسته الأصولية ونظرية ولاية الفقيه المنبثقة عنها أن الهامش الكبير الذي يتوفر لديهم للاجتهاد يجعلهم متميزون، غير مدركين أن هذا الإحساس بالتميز ناجم فقط عن تورم معتقداتهم، وأن فقههم رغم كل الاجتهادات التي طالته قد رهن نفسه لتأويلات إيديولوجية مصلحية منذ وفاة الإمام الحسن العسكري، وما يزال أسيرا لها إلى يومنا هذا(42).
ومما لاشك فيه، فإن استمرار إسباغ هالة القداسة على هذه التأويلات والاجتهادات الشخصية وربطها بشكــل
5
متعسف مع النص القرآني و السنة النبوية الصحيحة، بل ورفعها إلى مقامهما في كثير من الأحيان أدى عمليا إلى إلغاء الدور السياسي للأمة، وإلى إسباغ ذات القداسة على من تولى القيادة على أساسها، الذي يجب على عامة الناس تقليده وطاعته وعدم مخالفته، فغدا بذلك مرجعا للشؤون السياسية والدينية معا، يمارس سلطة دكتاتورية متكاملة الأركان، تمارس القمع داخليا، وتسعى للتوسع خارجيا، بينما باقي السلطات الأخرى المنصوص عليها دستوريا مجرد أيادي له، وعضدا يسانده (43).
الهوامش:
1/ انظر احمد حسن يعقوب "المظاهر الإسلامية في الدستور الإيراني" في الرؤى الحضارية لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية" مجموعة من المؤلفين المستشارية الثقافية لإيران بدمشق 2004 ص 46.
2/ لمزيد من التفاصيل انظر طلال عتريسي "الجمهورية الصعبة" ص19 وما يليها دار الساقي بيروت 2006.
3/ انظر وضاح شرارة طوق العمامة رياض الريس للكتب والنشر الطبعة الأولى بيروت 2013 ص16.
4/ انظر عبد القادر زاوي "الربيع العربي ... ثورات ملغومة" دار النشر المغربية الدار البيضاء 2014 ص353.
5/ جاء في الفقرة 16 من المادة 3 من الدستور الإيراني أن تنظيم السياسة الخارجية للبلاد يتم على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم. انظر دستور الجمهورية الإسلامية في إيران الصادر عن معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي الطبعة الثانية 1992.
6/ صدر في الأصل باللغة الفارسية عن مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني
7/ انظر احمد الكاتب "تطور الفكر السياسي الشيعي : من الشورى إلى ولاية الفقيه" الطبعة الأولى ص14 دار الجديد بيروت 1998.
8/ انظر السيد محسن الأمين العاملي الشيعة في مسارهم التاريخي مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي بيروت 2000 ص165.
9/ انظر محمد علي التسخيري "معالم الدستور الإسلامي الإيراني" في "الرؤى الحضارية لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية" م.س.ذ ص14.
10/ انظر هادي العلوي فصول من تاريخ الإسلام السياسي الطبعة الثانية نيقوسيا قبرص 1999 ص90.
11/ انظر احمد الكاتب م.س.ذ ص67.
12/انظر هادي العلوي م.س.ذ ص91.
13/ المرجع أعلاه ص72.
14/ المرجع أعلاه ص177.
15/ الصدوق في إكمال الدين ص280 انظر احمد الكاتب م.س.ذ ص145.
16/ الشيخ الصدوق إكمال الدين ص373.
17/ احمد الكاتب م.س.ذ ص210.
18/ الشيخ الصدوق إكمال الدين ص92.
19/ ظلت هذه المقولة مرتبطة بفكرة الغيبة، وترددت في الأئمة واحدا بعد الآخر. وقد قيلت لأول مرة بعد استشهاد الإمام علي بن أبي طالب، الذي أنكر مشايعوه في البداية وفاته، قائلين بأنه لم يمت ولن يموت إلا بعد ان يسوق العرب بعصاه. انظر فرق الشيعة للنوبختي ص422، وكذلك الكشي في معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين ص101.
20/ لمزيد من المعرفة عن كبار أعلام الشيعة انظر السيد محسن الأمين العاملي م.س.ذ.
21/ احمد الكاتب م.س.ذ ص159.
22/ الصدوق م.س.ذ ص85.
23/ احمد الكاتب م.س.ذ ص169.
24/ انظر كنز الفوائد لصاحبه أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الجزء 1 ص371.
25/ سرداب الغيبة الذي بنى عليه الخليفة العباسي المعتضد بالله قبة يوجد في مدينة سامراء العراقية بجوار قبر الإمامين الهادي والعسكري، ويعد من المزارات المقدسة لدى الشيعة.
26/ عرف جعفر بن علي الهادي بين من بايعوه بجعفر الزكي، فيما سماه عموم الشيعة بجعفر الكذاب لادعائه الإمامة خلفا لأخيه.
27/ احمد الكاتب م.س.ذ ص236.
28/ انظر مصنفات الشيخ المفيد "الرسالة الأولى في الغيبة" منشورات المؤتمر العلمي للذكرى الألفية لوفاة الشيخ المفيد بغداد 1992.
29//نقله مصطفى صلاح الدين في الاجتهاد ص535.
30/انظر الطوسي الغيبة ص242.
31/ احمد الكاتب م.س.ذ ص326.
32/انظر الشيخ المفيد م.س.ذ ص6.
33/ انظر احمد الكاتب : الشيرازي المرجعية في مواجهة تحديات التطور منشورات الزمان الطبعة الأولى 2002 ص69.
34/ انظر في هذا الصدد احمد الكاتب م.س.ذ ص 382.
35/ انظر الشيخ النراقي عوائد الأيام ص188 وما يليها.
36/ انظر احمد الكاتب م.س.ذ ص402.
37/ الشيخ النراقي م.س.ذ ص187.
38/ انظر آية الله الخميني كتاب البيع ص 461.
39/ انظر آية الله الخميني الحكومة الإسلامية ص25 وما يليها.
40/ انظر أروند إبراهيميان تارلايخ إيران الحديثة ترجمة مجدي صبحي سلسلة عالم المعرفة رقم 409 الكويت 2014 ص223.
41/ احمد الكاتب م.س.ذ ص436.
42/ بتصرف عن فؤاد إبراهيم الشيعة في السعودية الطبعة الأولى دار الساقي بيروت 2007 ص88 وما يليها.
43/ بتصرف عن حسين علي منتظري دراسات في ولاية الفقيه مذكور في احمد الكاتب م. عربية بامتيازس.ذ ص438.