أحمد الحطاب: النّّخبة النائمة

أحمد الحطاب: النّّخبة النائمة أحمد الحطاب
في هذه المقالة، سأحاوِل أن أشرحَ ما هي النُّخبة ولماذا هي نائمة.
النُّخبة l'élite هي مجموعة محدودة من الناس، بالمقارنة مع السواد الأعظم من أعضاء المجتمع. وهذه المجموعة المحدودة من الناس لها مُميِّزأت des caractéristiques تجعل من أعضائها صفوةً crème أو شخصيات من أفضل وأحسن ما هو موجود، من الناحية الفكرية، في المجتمع. وما يُميِّز النخبةَ عن السواد الأعظم من المجتمع، هو ثقافتُها sa culture أو كفاءاتها ses compétences، أي ما يجعل من أعضائها ناسا واعين ومتفتِّحين فكريا épanouis intellectuellement ومتحرِّرين اجتماعياٍ émancipés socialement. والنخبة لها مكانة إجتماعية أو لها من الصفات les qualités ما يجعلها مُميَّزة اجتماعيا أو لها تميُّزٌ une excellence في مجال معيَّن. لكن الثقافة والكفاءات والتَّفتُّح الفكري والتَّحرٌّر الاجتماعي ليست هي الصفات الوحيدة التي تتميَّز بها النُّخبة. فالثروة la richesse، هي الأخرى، قد تجعل من مالكيها نخبةً لها نفوذ اجتماعي ولها تأثيرٌ على كثيرٍ من الأمور، وخصوصا، في المجال الاقتصادي.

وبصفة عامة، النخبة هي مجموعة محدودة من الناس لها صفاتٌ des qualités ليست مُتوفرة عند الأغلبية الساحقة من أعضاء المجتمع. وهذه الصفات لها علاقة إما بالثقافة وإما بالكفاءات وإما بالتَّفتُّح الفكري والتَّحرُّر الاجتماعي وإما بالثروة أو كل هذه الصفات مجتمِعة في آنٍ. احدٍ عند نخبة ما.

والمجتمع فيه نُخَبٌ كثيرة. وعلى رأس هذه النُّخب، تتربَّع النخبتان، المثقفة والسياسية. وغالباً ما تنصهر الثقافة في السياسة أو السياسة في الثقافة لتتشكِّلَ نخبةً مثقَّفة/سياسية une élite politico- intellectuelle تنتظٍم على شكل أحزابٍ سياسيةٍ. بمعنى أن النخبة المثقفة، إذا اختارت أن تدخلَ عالمَ السياسة، فإن مهمَّتها تنحصر في تدبير الشأن العام حسب ما ينصُّ عليه الدستور والقوانين المنبثقة عنه. و إذا لم تختر الدخول في عالم السياسة، فإن مهمَّتِها هي رصدُ ما يُطرَح في المجتمع من قضايا وما يقع من أحداث.

ولهذا، فالنخبة المثقَّفة، إذا اختارت وُلوجَ عالم السياسة، فإنها نُخبة مثقفة-سياسية. لماذا؟ لأن هذه النخبة لا يمكن لها أن تُدبِّرَ الشأن العام بدون رصيد معرفي يتعلَّق، أولا، بما يطمح له المجتمعُ من كرامة العيش ومن تقدم وازدهار، وثانيا، يتعلَّق بكل ما يساعد على القيام بمهمَّة التَّداير على أحسن وجهٍ.

وإذا اختارت النخبة المثقفة عدمَ ولوج عالم السياسة، فإنها تبقى نخبة مثقفة محضة، من مهامها رصدُ وانتقادً كل ما يتعلَّق بكيفية تدبير الشأن العام وبالسياسات العمومية المُترتِّبة عن هذا التدبير. والنخبة المثقفة المحضة هي التي أصابها نومٌ أو سُباتٌ عميق، منذ ما يزيد عن عقدين من الزمان.

فعوض أن تقومَ بمهامها كشُعلة للتَّقدُّم والفكر النقدي وللتَّحوُّل أو التطوُّر الاجتماعي والنقاش العمومي…، فإنها اختارت الدخولَِ في صمتٍ رهيب لا أحدَ يفهمُه. وعوضَ أن يكونَ لها تأثيرٌ على كيفية تدبير الشأن العام وعلى مضمون السياسات العمومية، كما كان الشأن في الستينيات والسَّبعينيات، فإنها اختارت الجمودَ وقبول الواقع بما فيه من سلبيات اجتماعية واقتصادية.

وهذا يعني أن النخبةَ المُثقَّفةَ الحالية فقدت واحدا من أهم أسرار وجودِها، ألا وهو الالتزام بالتفاعل l'interaction مع القضايا الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية. وفقدان هذا الالتزام يُحدِث هُوةً بين النخبة المثقفة وطموحات وتطلُّعات الشعب. وهذا يعني أنه إذا كانت هناك معارضة سياسية رسمية، وإذا لم تقم هذه المعارضة بدورِها السياسي، فلم يبق للشعب إلا نخبتُه المثقفة التي، بحكم مواطنتِها، عليها أن تنتقِدَ كل السياسات العمومية التي تسير في الاتجاه المعاكس لطموحات وتطلُّعات المواطنين. لماذا؟

لأن النخبة المثقفة، بحكم تنوُّعها الفكري، هي التي تُنتِج المعرفة. والمعرفة قد تأتي بحلول لِما لم تستطع السياسات العمومية إرضاءَه من تطلُّعات. والمعرفة هي التي تؤهِّل مختلف الفُرقاء المثقفين من :

1.تحليل المشكلات الاجتماعية، الاقتصادية وغيرها من المشكلات واقتراح الحلول لها.

2.تأطير وتكوين الرأي العام l'opinion publique حول القضايا الاجتماعية، على الخصوص.

3. تنصيب نفسها كسلطة مُضادة un contre-pouvoir للسلطة القائمة le .pouvoir établi

4،.تسخير ما تُنتِحه من معارف لخدمة الصالح العام l'intérêt général.


كل هذه الأشياء اختفت باختفاء النخبة المثقفة. والحقيقة، كل الحقيقة، أن النخبة المثقَّفة لم تختف. لكنها نامت نوما عميقا، اجتماعياً وفكرياً، أو كما نقول باللسان الدارج "دَخْلَتْ سوقْ رَأسْها". ونومُها أدى إلى انكماشها على نفسها. وانكِماشُها على نفسها أدي إلى إحداث قطبعةٍ بينها وبين المجتمع، وبالتالي، لم تعد تهتم بمشكلاته وانسحبت من الساحة الفكرية والنقدية ولم يعد لها نأثيرٌ على تحوُّل المجتمع n'a plus d'influence sur la transformation de la société. والأسباب التي قد تكون وراء هذا الانكِماش، في رأيي كثيرة، أذكر من بينها ما يلي :

1.الشعور بالإحباط la déception المُترتِّب عن عدم تغيير العقليات les mentalités رغم ما يقدِّمونه من خدمات للمجتمع.

2.الشعور بأن ما يقدِّمونه من خدماتٍ للمجتمع بأنه غير نافعٍ أو لا تُدركه كثيرٌ من العقول بسبب محدودية تفكيرِها أو بسبب تبايّن في الرؤى.

3.الشعور بأن السياسةَ، كما هي ممارسةٌ، حالياً، في المجتمع، تنشر الفساد، وأن شريحةً عريضةً من هذا المجتمع طبَّعت مع هذا الفساد، وبالتالي، لم يعد نافعا تدخُّل النخبة المثقَّفة لتغيير هذا الوضع.

4.الشعور بأن الأحزابَ السياسيةَ، نفسَها، لم تعد تهتم لا بتأطِير المواطنين ولا بتنشئتِهم السياسية، فما لم تعد تهتم به السياسة، فكيف للثقافة أن تُغيِّرَه؟

5. ليس من السهل تغييرُ عقليات شعبٍ أكثر من ثُلُثِه أمي ولم تطأ قدماه عتبةَ المدرسة، أي يجهل أبجدِيات التَّحوُّل الاجتماعي، الاقتصادي، العلمي، التكنولوجي، الثقافي، السياسي، الديمقراطي…

6.ليس من السهل تغييرُ عقليات شبَّت وكَهُلت وشاخت في وسطٍ تسود فيه، بصفة عامة، تربيةٌ تقليدية ومحافظة، وبصفة خاصة، تربيةٌ دينيةٌ تخويفية وترهيبية.

7.الشعور بأن النخبة المثقَّفة هي نفسها غير قادرة على تعبئة مجتمعٍ أفكارُه تصبُّ في المحافظة le conservatisme وسلوكُه يصبُّ في الحداثة la modernité…


وفي الختام، أقول وأكرِّرُ "المجتمع صورةٌ أمينة لمدرستِه والمدرسة صورةٌ أمينة لمُجتمعِها". كلما كان التَّعليم متفتِّحاً فكريا ومُتحرِّراً اجتماعياً، كلما سهُلَت مهام النخبة المثقفة.