الأسماء المتصدّرة لهذا الخطاب، في معظمها، نكرات معرفية: لا تراكم لها في المادة، ولا أثر علمي أو فلسفي يُستدل به على فهم نسقي أو إنتاج يُجاوز السطح. ما يُقدَّم لا يعدو أن يكون ارتجالًا يُفتقر إلى أدوات النظر المركّب، ويغيب عنه الوعي التاريخي والأنطولوجي بالمؤسسة. والخطر هنا ليس في القول، بل في طابعه الادعائي الذي يخلط بين الانتماء المؤسسي والامتلاك المعرفي، وبين التبجيل والتفكير.
أين المجلس العلمي الأعلى من هذا الانزلاق نحو التسطيح؟ أليس من واجب المؤسسات أن تتدخّل حين يتحوّل الحقل الديني إلى مسرحٍ للبلاغة الفارغة، ويُختزل فيه العقد الأخلاقي والسياسي الذي تمثّله إمارة المؤمنين؟
إن إمارة المؤمنين ليست مجرد لقب دستوري، بل نظام معرفي ذو طبقات تأويلية متشابكة: تاريخية، فقهية، سوسيولوجية، وسياسية. ومن يتناولها من خارج هذه الطبقات دون أدوات تحليل أو إرث بحثي، يُسهم في تحويل الثابت إلى رمزية فارغة، ويُفرغ المؤسسة من قدرتها على التأطير والتوجيه.
لسنا ضد الحديث عن إمارة المؤمنين، بل ضد تحويلها إلى مادة محفوظة تُلقى بلا روح ولا تجديد. نطالب بخطاب يجمع بين الوفاء للتاريخ والقدرة على مساءلته، وبين التحصين العلمي والانفتاح الفكري. أما الصمت عن هذه “المهزلة”، فهو تواطؤ مع بلادة الفكر، لا مع عمق المؤسسة.
ويبدو أن هذا النزيف الرمزي لا يقتصر على الساحة المحلية، بل يمتد إلى المحافل الدولية، حيث يُستَعرض النموذج المغربي بخطاب إنشائي لا يحاور التاريخ ولا يُحسن توظيف أدوات التأصيل. ويتجلّى ذلك بوضوح في توصيات مؤتمر كيغالي، الذي برز فيه خطاب دعوي يؤكد قيم السلم والتعايش، لكن على حساب المعالجة المعرفية، وعلى حساب قدرة النموذج المغربي على التعبير عن نفسه.
إمارة المؤمنين قُدمت كـ”منارة”، لكن دون تفكيك لمضامينها الفكرية ولا بنيتها الشرعية. غابت عنها المعالجة المعرفية، وحضرت بوصفها شعارًا يُستهلك ولا يُناقش. بثقله التاريخي والمؤسساتي، لم يُقدَّم النموذج كما ينبغي: لا في أدواته الفقهية، ولا في تجاربه التأصيلية، ولا حتى في تجديده المعرفي. فالتوصيات تغازل النموذج الرواندي وتصفه بـ”الملهم”، دون أي دراسة نقدية لسياق الدولة والدين بعد الإبادة، وكأننا أمام خطاب مديح أكثر منه مشروعًا معرفيًا للتأسيس.
غياب المرأة والعلماء الشباب عن التمثيل، وعدم الإشارة لقضايا رقمية أو بيئية، يطرح سؤالًا جوهريًا: هل نحن أمام مشروع ديني متعدّد أم مجرد صوت واحد في ثوب أفريقي؟ المشكل ليس في القيم، بل في طريقة تقديمها. النموذج المغربي ثري، لكنه أُفرِغ من مضمونه حين أُدرج في بلاغة إنشائية لا تُقنع الآخر ولا الذات.
الخلاصة؟ إن لم نُحسن تقديم مرجعياتنا، وإن لم نفككها معرفيًا، فسنُكرّس مركزية مغلقة باسم الأخلاق، ونفقد فرصة تأسيس فقهٍ للتعدد والتعايش، داخليًا وخارجيًا.