الحكاية الأولى تبدأ في محج الرياض بالرباط ، حيث الرخام يلتقي بالأشجار، وحيث الإدارات والمكاتب والشركات أصبحت أكثر عدداً من المارة. هناك رجل ستيني أراه منذ سنوات، ملامح وجهه ثابتة لا تتغير تقاوم تضاريس الزمن ومنعرجات الحياة يبدل فقط لباسه حسب الفصول ،معطف في الشتاء، وقميص في الربيع، ونظارات شمسية في الصيف. يحمل أوراقاً وبطاقة ويمد فوقها يده طلباً للإحسان من الموظفين والمرتفقين الذين يقصدون هذا الحي الإداري.
لكن، في صباح يوم الاحد الأخير، وعلى غير عادتي، كنت في محج الرياض على موعد .حيث المكان يغير جلده في نهاية الأسبوع فلا مكان لربطة العنق ولا لرتابة وأجواء الادارة فالفضاء مرح ومرحب بنوع آخر من الزبناء ، أسر بكاملها تتناول فطورها خارج البيت، وأطفال يشاغبون مع عدد من المارة يقطعون الشارع جيئة وذهاباً بخطوات رياضية. هناك ايضا صادفت نفس الستيني ، ولكن في نسخة مختلفة لوك جديد ،تيشورت ، حذاء رياضي ماركة (تقليد غالبا )، كاسكيط غير أن اليد هي نفسها، ممدودة كما عهدتها. عندها تسائلت هل صار التسول عندنا مهنة موسمية تتقن تبديل الأزياء .في أيام الأسبوع تسول إداري، وفي عطلة نهاية الأسبوع -الويكند -تسول سبور .؟
الحكاية الثانية: قبل أن أصل يومياً إلى مقر عملي في حي الرياض، اعتدت مع أصدقاء أن نتوقف عند مقهى شهير بأكدال العالي. لا تفارق مدخله سيدة خمسينية . وذات مرة، خرجت منشغلاً بمكالمة هاتفية، فلحقت بي إلى موقف السيارات، وما إن أنهيت المكالمة حتى باغتتني بقولها: “الحاج، تهلا فيا… راه انتَ 15 يوم ما جيتيش للفطور”. اكتشفت يومها أن التسول صار أشبه بعقد إذعان: إذا بدأت تعطي، فلا مجال للتوقف!
يبدو ان المدن الكبرى في العالم لطالما صنعت متسوليها. ففي العصور الوسطى، كانت شوارع باريس تعجّ بمتسولين يحملون “شهادات الفقر” موقعة من الكنيسة، كأنها بطاقة مهنية. وفي نيودلهي أو القاهرة وغيرهما ،هناك الان “البزنس المنظم للتسول”، حيث تتولى شبكات توزيع المواقع وتقاسم العائدات. والفرق الوحيد اليوم هو أن التسول صار أكثر ذكاءً وقدرة على التكيّف مع المكان والزمن.
أما ببلادنا ، فقد كشف المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في دراسة حديثة له عن خلاصات اخترت منها ثلاثة:
الأولى، أن أغلبية المغاربة يعتبرون التسول ظاهرة خطيرة تهدد النسيج الاجتماعي.(ومع ذلك يعطون)
الثانية، أنه في تجربة نموذجية بالرباط وسلا لم تتمكن المراكز الاجتماعية من التكفل إلا بعدد جد محدود من الأطفال الذين يستغلون في التسول، أغلبهم دون أربع سنوات.
الثالثة، أن التسول أسرع من السياسات في ابتكار أساليبه وانتشاره.
ومع ذلك يظل الثابت أن ليس كل محتاج متسولاً، وليس كل متسول محتاجاً. كم من فقير يختار الصمت ولا يمد يده، وكم من محترف حوّل الشفقة إلى استثمار. حتى الفيلسوف ديوجين، الذي عاش في برميل، كان يرفض مد اليد رغم فقره المدقع، لأنه كان يرى أن طلب الصدقة عبودية للآخر.
« الكرامة أن تملك كل أسباب الحاجة ولا تمدّ يدك إلا للسماء.”
اما في شوارعنا اليوم، صار المتسول يعرف نفسية المكان ، ففي المقهى يطلب “خلص لي قهوة وصافي… وزيد شي سيجارة”، عند الجزار: “زيدني عشرة دراهم باش نشري الكبيدة ”، أمام الصيدلية: “غير باش نشري الدوا… راه عندي المرض الخايب”، وبمحطة القطار: “كمّل لي التذكرة”. لكل موقع سيناريو، ولكل لحظة لباسها.
من باريس القرن السابع عشر إلى الرباط القرن الواحد والعشرين يظل السؤال نفسه ،كيف نواجه ظاهرة جعلت المدينة الحديثة مسرحاً دائماً للشفقة؟ هل يكفي أن نعطي؟ أم أننا في حاجة إلى رؤية جديدة تعيد للإنسان كرامته وتفصل بين الحاجة والاحتيال؟
ربما سنصل يوماً إلى مرحلة يصبح فيها التسول نشاطاً ببطاقة مهنية، زيّ موحد لكل يوم ،وتطبيق على الهاتف “تسوّل آب” لحجز أماكن التسول والدفع الإلكتروني. وحينها سيتوقف ذلك الرجل بمحج الرياض عن مطاردة المارة بقميص طوال الأسبوع وبتيشورت رياضي في ويكاند ، ووسيكتفي بإرسال إشعار إلى الهاتف :
“لقد فاتك دفع اشتراكك الشهري في الصدقة… اضغط هنا قبل أن نقطع عنك الخدمة!”
إنه التسول2.0