يجد المغرب نفسه أمام معادلة دقيقة ومعقدة في تدبير علاقاته مع إسرائيل، وهي معادلة تتداخل فيها إكراهات الدولة باعتبارها فاعلا أساسيا في صياغة السياسات الخارجية وفاعلا سياديا يتخذ قراراته بناء على تقديرات إستراتيجية معقدة، تحكمها إكراهات جيوسياسية وتحولات إقليمية ودولية، لا تملك تفاصيلها الكاملة إلا الأجهزة السيادية للدول؛ مع موقف شعبي رافض يعبر عن حساسية وجدانية وتاريخية تجاه القضية الفلسطينية.
استئناف العلاقات بين الرباط وتل أبيب لم يكن مجرد قرار دبلوماسي عابر، بل تعبيرا عن توازنات دقيقة بين منطق الدولة وموقف المجتمع. كما لم يكن قرارا معزولا أو اعتباطيا، بل جاء ضمن رؤية شاملة تستند إلى تقديرات سياسية وأمنية واقتصادية لا تملك تفاصيلها الكاملة سوى مؤسسات الدولة وأجهزتها المختصة. فالدولة تتحرك بمنطق المصلحة العليا، وتسعى إلى تعزيز موقعها الإقليمي والدولي في عالم متغير، يحكمه منطق القوة والتحالفات المتبدلة.
إن قرار استئناف العلاقات لا ينفصل عن منظومة المصالح العليا للدولة، التي تسعى لتعزيز موقعها الاستراتيجي على أكثر من صعيد. فعلى المستوى العسكري والأمني، تأتي هذه العلاقات في سياق توترات متصاعدة مع الجارة الشرقية الجزائر، والتي بلغت ذروتها بقرار القطيعة الدبلوماسية، وتزايد التهديدات المرتبطة بالنزاع الاقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية، بما في ذلك انسحاب جبهة "البوليساريو" من اتفاق وقف إطلاق النار، واتهامات المغرب لإيران بتسليحها...
في هذا السياق، وجد المغرب في الشراكة مع إسرائيل فرصة لتعزيز قدراته الدفاعية من خلال صفقات عسكرية نوعية للدفاع الجوي والطائرات المسيرة، بالإضافة إلى مساع لبناء صناعة عسكرية محلية، بدعم من التكنولوجيا الإسرائيلية والمساندة الأميركية.
ولم تتوقف رهانات المغرب عند الجانب العسكري، بل امتدت إلى الأبعاد الاقتصادية والتنموية. إذ يسعى إلى استقطاب استثمارات نوعية من طرف الجالية اليهودية من أصل مغربي، إضافة إلى مستثمرين إسرائيليين، في مجالات ترتبط مباشرة بالأمن المائي والغذائي والطاقة والتكنولوجيا والبحث العلمي، وهي قطاعات حيوية تزداد الحاجة إليها في ظل تداعيات التغيرات المناخية والجفاف، وما ينتج عنهما من مخاطر اجتماعية تهدد الاستقرار الداخلي. وقد عرفت العلاقات الاقتصادية بين البلدين دينامية ملحوظة خلال سنتي 2022 و2023، تمثلت في تنظيم منتديات استثمارية وتوقيع اتفاقيات متعددة، تعكس سعيا نحو بناء شراكة متينة ومربحة للطرفين.
في الآن ذاته، وضع المغرب في صلب رهاناته الحصول على اعتراف إسرائيلي صريح بمغربية الصحراء، أسوة بالموقف الأميركي الصادر نهاية 2020، والذي أحدث تأثيرا ملموسا في مواقف عدد من الدول، خاصة في اوروبا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
غير أن هذا المسار السياسي والدبلوماسي الذي اختارته الدولة المغربية لا يحظى بإجماع داخلي، بل يواجه برفض شعبي واسع، تغذيه الممارسات العدوانية للحكومة الإسرائيلية اليمينية تجاه الشعب الفلسطيني، وتدهور الأوضاع في القدس وغزة والضفة الغربية. وعلى الرغم من أن الخطاب الرسمي المغربي يؤكد أن استئناف العلاقات مع إسرائيل لا يعني التخلي عن الالتزام التاريخي تجاه القضية الفلسطينية، فإن مواقف الرأي العام ترى أن الشراكة مع إسرائيل لم توظف بعد في اتجاه دعم مفاوضات السلام أو الضغط لوقف الاستيطان والاعتداءات اليومية.
وما يميز الحالة المغربية أن الدولة لم تلجأ إلى قمع الأصوات المعارضة للتطبيع، ولم تقدم على حل الجمعيات المناهضة له، وهو ما يعكس وعيا سياسيا بضرورة احترام التعددية داخل المجتمع، وحق المواطنين في التعبير عن مواقفهم حتى وإن اختلفت مع اختيارات الدولة. وهذا التوازن بين منطق الدولة وموقف المجتمع يضرب بجذوره في الثقافة السياسية المغربية، التي تتسم بمرونة تسمح بالتعدد، كما تؤكد على خصوصية التجربة الوطنية التي تزاوج بين الواقعية السياسية والحفاظ على الشرعية الرمزية.
من جهة اخرى، لا يمكن إغفال أن للمغرب خصوصية هوياتية تميزه عن باقي دول المنطقة. فالمغرب، تاريخيا، يعد وطنا لعدد مهم من اليهود المغاربة المقيمين اليوم في إسرائيل، وبعضهم يحتفظ بروابط وجدانية وثقافية مع بلدهم الأصلي، مما يمنح العلاقة مع إسرائيل بعدا ثقافيا وإنسانيا يتجاوز الحسابات السياسية الآنية. كما أن الدستور يعترف صراحة بالرافد العبري كجزء لا يتجزأ من الهوية المغربية المتعددة.
في المقابل، فإن لإسرائيل أهدافا إستراتيجية واضحة من هذا التقارب، تتجلى في سعيها إلى الاندماج التدريجي في المحيط العربي وشمال إفريقيا، وتطبيع وضعها الإقليمي، واكتساب شرعية سياسية وأمنية تخرجها من حالة العداء الشعبي، إذ تراهن على بناء تحالفات إقليمية، تحت عنوان "التهديد الإيراني"، لشرعنة وجودها السياسي والعسكري ضمن المنطقة، خصوصا في ظل ما تعتبره تهديدا مشتركا من طرف إيران وأذرعها العسكرية في المنطقة.
في المحصلة، العلاقات المغربية-الإسرائيلية ليست سوى جزء من معادلة سياسية معقدة، يتحرك فيها المغرب بدافع المصلحة الوطنية وتحت ضغط الجغرافيا والجيوسياسة. الدولة لها حساباتها السيادية الدقيقة، والمجتمع له موقفه المبدئي الواضح. وبين هذا وذاك، تظل السياسة الخارجية حقلا للموازنات، حيث لا صداقات دائمة ولا عداوات مطلقة، بل مصالح متبادلة وحسابات متغيرة.
إن نجاح المغرب في هذا المسار يقتضي الحفاظ على ثنائية دقيقة: توسيع شراكاته الإستراتيجية دون التفريط في ثوابته، والمضي قدما في تأمين مصالحه العليا، دون التضحية بشرعيته الداخليةز التي يستمدها من أصوات مجتمعه وقيمه التاريخية.
في النهاية، تظل العلاقات المغربية-الإسرائيلية نتاج تقاطع ضرورات الدولة مع مواقف المجتمع، وهي تعبير عن منطق سياسي يحكمه التقدير الواقعي للمصالح والمخاطر. فالمغرب يتحرك في إطار منظومة دولية تقودها قوى كبرى، ويطمح إلى ترسيخ استقراره، وتقوية مؤسساته، وتعزيز مكانته كفاعل جيو-استراتيجي في منطقة شديدة الاضطراب.
الاكيد ان المغرب منخرط ضمن منظومة دولية تقودها القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، يلتزم من خلالها بالمشاركة في حفظ الأمن والسلم الدوليين ومحاربة الإرهاب الدولي. وفي هذا الإطار، ينظر إلى التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية كاحد أطراف الاتفاق الثلاثي، في أحد أبعاده، على أنه جزء من تموقع المغرب كفاعل مسؤول في النظام العالمي الجديد.
وإذا كانت السياسة، في جوهرها، فن التوازن بين المبادئ والمصالح، فإن التحدي الأهم اليوم يكمن في قدرة المغرب على الحفاظ على هذا التوازن الهش، دون أن يفقد البوصلة الأخلاقية، أو يتخلى عن التزامه التاريخي تجاه القضايا العادلة وفي مقدمتها قضية فلسطين.
مصطفى عنترة، كاتب صحفي