جمال الدين ريان: تأجيل المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث.. عَرَضٌ لأزمة أعمق

جمال الدين ريان: تأجيل المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث.. عَرَضٌ لأزمة أعمق جمال الدين ريان
في خطوة أثارت استياء الأوساط الثقافية، تم تأجيل الدورة السادسة والثلاثين من المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث بمدينة شفشاون، وهو ما لا يمكن اعتباره مجرد إجراء تقني أو إداري، بل انعكاس واضح لاختلالات بنيوية عميقة تعاني منها السياسة الثقافية بالمغرب، وسوء تدبير العلاقة بين الدولة والمجتمع الإبداعي. الأمر هنا لا يتعلق فقط بإلغاء موعد ثقافي سنوي، بل بضرب عرض الحائط لأجيال من التراكم الشعري والفكري الذي ظل هذا المهرجان يحتضنه لعقود.
 
إن تأجيل هذا الحدث لا يُصيب فقط الشعراء والمثقفين بإحباط مشروع، بل يكشف عن ضعف الإرادة المؤسساتية في دعم الثقافة الوطنية، وغياب الرؤية المستقرة والمستدامة تجاه الفعل الثقافي الجاد. ففي بلد يُفترض أنه يرفع شعار "التنمية الثقافية" كجزء من رؤيته المستقبلية، يصبح من المؤسف أن تجد تظاهرة بهذا الحجم تواجه صعوبات في التمويل والدعم، مما يضعف الثقة في جدية الشعارات الرسمية التي تتغنى بالثقافة كرافعة للتنمية.
 
الشعراء الذين كانوا يستعدون لإحياء هذه الدورة لا يرون في التأجيل مجرد تأخير، بل تراجعًا عن التزام أدبي ومعنوي تجاههم. لقد فقدوا منصة أساسية للتعبير، للتفاعل، ولتثبيت وجودهم ضمن المشهد الأدبي المغربي، خصوصًا أولئك الشباب الذين كانوا يراهنون على هذا الحدث لإبراز أصواتهم أمام جمهور نوعي ونخبوي. أما جمهور الأدب ومحبو الكلمة، فقد صُدموا بهذا التأجيل الذي يُفرغ مدينة شفشاون من واحدة من أبرز لحظاتها الثقافية.
 
ثم إن المدينة نفسها، والتي عُرفت بجمالها وهدوئها وتفردها الفني، تخسر بدورها زخمًا سياحيًا وثقافيًا لا يُستهان به. فالمهرجان لا يجلب فقط القصائد، بل يجلب معه الحضور والإعلام والضوء والأثر. وتأجيله يعني – بوضوح – إفراغ المدينة من نبضها السنوي، وتراجعًا في موقعها كحاضنة أساسية للإبداع المغربي.
 
أما جمعية أصدقاء المعتمد، وهي الجهة المنظمة، فقد تلقت صدمة مزدوجة: من جهة غياب الدعم، ومن جهة أخرى تلاشي جهد شهور من التحضير والتنظيم. ومن غير المنطقي أن نُطالب هيئات المجتمع المدني بأن تلعب دورًا في التنمية الثقافية، بينما تُترك تواجه الإهمال والتهميش كلما احتاجت دعما حقيقيًا وفعليًا.
 
إن تأجيل هذه الدورة ليس فقط قرارًا إداريًا عابرًا، بل إنذار ثقافي يعكس هشاشة منظومة الرعاية الثقافية في البلاد، وسؤالا حارقا حول أولويات السياسات العمومية: هل الثقافة فعلاً في صلب الاهتمام، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد شعار مناسباتي؟ أين هو "النموذج التنموي الجديد" من دعم التظاهرات الثقافية التي تخلق التراكم الرمزي والحضاري؟ وأين هي الجهات الوصية من مسؤوليتها في تمويل وتشجيع الفعل الثقافي المستقل والجاد؟
 
نحن لا نملك رفاهية تهميش الثقافة في زمن تتلاشى فيه المعاني، وتضيع فيه الهويات. المهرجان الوطني للشعر الحديث لم يكن فقط موعدًا أدبيًا، بل كان مساحة لالتقاء الوعي، وبناء الجسور بين الأجيال، ومساءلة اللغة، والمصير، والانتماء. وتأجيله – في ظل كل هذا الصمت – لا يجب أن يُقابل بالتطبيع، بل بالمحاسبة والمساءلة.
 
فالثقافة ليست ترفًا. إنها ضرورة وجودية. وتأجيل مهرجان بهذا الثقل هو ببساطة… تأجيل للحوار الوطني مع الذات.