الطاهري: الطيران المدني في المغرب.. بين المدنية الظاهرية والهيمنة السيادية المهددة"

الطاهري: الطيران المدني في المغرب.. بين المدنية الظاهرية والهيمنة السيادية المهددة" منير الطاهري
رغم الطابع المدني الظاهري لقطاع الطيران، إلا أن تطور السياقات الدولية، والتحديات التكنولوجية، والتهديدات السيبرانية، وحساسية البنية التحتية الحيوية تجعل من قطاع الطيران المدني في المغرب قطاعًا ذا طابع مزدوج: مدني وعسكري في آنٍ واحد، أي قطاع سيادي بخصوصيات أمنية وعسكرية.

ويُطرح في المغرب، كما في عدد من الدول الصاعدة، سؤال مركزي: هل يجب التحفظ في اعتباره قطاعًا عسكريًا؟ أم من الضروري إعادة إدماجه ضمن الرؤية المرفقية والتجارية للدولة؟ لذلك سنحاول في هذا المقال تقديم تحليل قانوني وتدبيري واستخباراتي للدفاع عن ضرورة تعزيز البُعد السيادي للدولة في الإشراف على قطاع الطيران المدني.

أولاً: الطيران المدني في التشريعات المغربية – حياد ظاهري وغياب للبعد السيادي
تُدبر شؤون الطيران المدني في المغرب من خلال المديرية العامة للطيران المدني، التابعة لوزارة النقل واللوجستيك. وتستند هذه المديرية في تنظيمها على قانون الطيران المدني رقم 40.13، وعدد من مراسيم تنظيم الملاحة الجوية، وكذا القانون الدولي للطيران (اتفاقية شيكاغو 1944) بملاحقها ومجلداتها والتوصيات الصادرة عن منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) في إطار تدقيقاتها الدورية لصلاحية النظم والبنيات التحتية للطيران المدني لدى الدول الأعضاء.

ورغم ما توفره هذه القوانين من إطار تنظيمي دقيق، إلا أن البعد الأمني السيادي لا يُكرس صراحةً في النصوص والتطبيقات فالهيكلة القانونية التي تفصل صراحة بين المدني والعسكري تسلم هذا القطاع لخبرات مدنية تجارية تستبعد الروح السيادية والأمنية للقطاع دون اعتراف بأن المطارات هي بنيات حيوية ذات حساسية أمنية عليا.

كما أن المديرية العامة للطيران المدني لا تخضع مباشرة لسلطة سيادية عليا (كوزارة الدفاع أو رئاسة الحكومة) كما هو معمول به في دول مثل فرنسا أو الولايات المتحدة.

ثانياً: الطيران المدني كأداة للسيادة الترابية والسيطرة الجغرافية
لا يمكن اليوم فصل الطيران المدني عن التحكم في المجال الجوي الوطني، وهو عنصر محوري في السيادة الوطنية. فالمطارات المدنية (مثل مطار الداخلة، العيون، كلميم) تمثل أدوات سياسية وجغرافية لتعزيز حضور الدولة في أقاليمها الجنوبية.

وفي نفس السياق فإن المجال الجوي المغربي ليس فقط مسألة تنظيم للرحلات ومنح للتراخيص، بل هو أيضًا حدود سيادية غير مرئية تحتاج لتأمين استخباراتي وتقني دائم.

كما أن المطارات في مناطق التماس الحدودي (مثل الناظور، وجدة، الداخلة) تُعتبر نقاطًا استراتيجية أمنية خصوصا في حدود جغرافية مغلقة من الناحية الشرقية في وجه الخطوط الجوية المغربية مما يستدعي حرصا مضاعفا من الدولة المغربية لضمان انسيابية خطوطها الجوية.

لا ننسى أن المسارات الجوية تبقى دائما أن عرضة للمراقبة أو التجسس أو النقل السري، مما يستدعي رقابة استخباراتية على الترخيصات والولوج للمجال الجوي.

ثالثاً: القطاع في سياق التهديدات السيبرانية والاستخباراتية
مع رقمنة إدارة الملاحة الجوية وتسيير المطارات، أصبحت منظومات الطيران المدني عرضة للقرصنة والتجسس والتخريب السيبراني. وتشمل هذه المخاطر:
التلاعب بنظم GPS (الذي تستعمله الطائرات والمطارات).
القرصنة على أبراج المراقبة.
التجسس على مسارات رحلات الشخصيات الحساسة.
اختراق أنظمة الحجز والمعلومات من قبل جهات معادية أو جماعات إجرامية.

ورغم هذه التهديدات: لا توجد وحدة استخباراتية مدمجة داخل المديرية العامة للطيران المدني للوقاية واليقظة تجاه هذه المخاطر.

كما نسجل في نفس الإطار تغييبا غير مفهوم للمصالح السيادية (المديرية العامة للدراسات والمستندات – DGED أو المديرية العامة للأمن الوطني – DGSN)  في تحليل المخاطر المرتبطة بالطيران وفي إعداد التقارير حول مخاطر التخريب والإرهاب.

والنتيجة هي أننا أمام غياب أي تصور استخباراتي استباقي لتدبير القطاع مما يجعلنا أمام قطاع هش وغير مواكب لأدوات الحماية التي أفرزتها التطورات الجيو-تكنولوجية.

رابعاً: الحكامة التدبيرية بين تحرير السوق وفقدان السيادة
منذ انخراط المغرب في برامج تحرير النقل الجوي مع الاتحاد الأوروبي (Open Sky)، باتت الدولة تعطي تراخيص لشركات أجنبية وتخضع الأجواء المغربية لمعايير تنافسية تجارية. وهو توجه يحمل مخاطر حقيقية ذلك أن  شركات الطيران الأجنبية التي تتحكم في أكثر من 60% من الرحلات الداخلية والدولية، تجعل الشركة الوطنية حاملة اللواء والمتعهد التاريخي في هامش الحركية الجوية الوطنية والدولية مما يُضعف القدرة الاستراتيجية للدولة في ضمان الخدمة العمومية في اللحظات الطارئة وخصوصا في لحظات الأزمات.

مقابل ذلك فشركات المناولة والخدمات الأرضية تُفوض لفاعلين خواص، أحيانًا بدون مراقبة صارمة، ما قد يُهدد سلامة المعلومات أو ينشر اختراقات محتملة لتدبير المعلومات والبضائع ومختلف خدمات المناولة.

لابد من الإشارة كذلك إلى أن الموظفين في العديد من القطاعات الجوية يخضعون لعقود غير محمية، مما يُضعف الثقة والانضباط في قطاع يفترض أن يكون استراتيجيا ويتطلب إخضاع المهن المرتبطة به لنظام الخدمة الدائمة.

خامساً: دروس من تجارب دولية: حين يصبح الطيران المدني قضية أمن قومي:
في الولايات المتحدة، يخضع الطيران المدني لإشراف مباشر من هيئة الطيران الفدرالية (FAA)، لكنها ترتبط أمنيًا بوزارة الأمن الداخلي (DHS)، وتنسق مع NSA وCIA.وفي فرنسا، يقع تنظيم الملاحة الجوية ضمن مهام مشتركة لوزارة النقل ووزارة الدفاع، خاصة في ما يخص المجال الجوي السيادي والتدخلات العسكرية.

في إيران وعدد من البلدان الآسيوية، ورغم الطابع المدني لهذا القطاع، يعتبر الطيران أداة مزدوجة، وبفضل ذلك فقد تم إسقاط طائرات تجسس ومسيرات في الحروب الأخيرة بين روسيا وأكرانيا أو بين إسرائيل وإيران بفضل التكامل بين المدني والعسكري.

سادساً: مقترحات لإعادة إدماج الطيران المدني في رؤية سيادية شاملة نقترح لأجلها
1. تعديل القانون 40.13 ليشمل تعريف الطيران المدني كجزء من المرافق العمومية السيادية للدولة.
2. إحداث وكالة مستقلة للطيران المدني كإطار مستقل ومشترك بين وزارة الدفاع والنقل والمستغل المطاري تشرف على تدبير الطيران في الأوضاع العادية وتتوفر على خطط تدبيرية للأزمات المطارية والجوية، كما هو معمول به في دول عديدة.
3. إدماج ضباط استخبارات مختصين في البنيات التنظيمية للمطارات، والمديرية العامة للطيران المدني توكل إليهم مهام دقيقة في مواضيع الاستغلال المطاري والتحقيقات في الوقائع والأحداث الجوية
4. إعادة النظر في اتفاقيات الأجواء المفتوحة بما يضمن أولويات السيادة الترابية وذلك من خلال ملاحق خاصة حول حقوق الدولة في ضمان شؤونها السيادية
5. الربط الدائم بين منظومة الرصد الجوي المدني ومنظومات الدفاع الجوي، مع تطوير قدرات اعتراض طائرات بدون طيار داخل المجال المغربي وتخويلها لسلطات الأمن والدفاع الوطني، ومع التسريع كذلك بوضع إطار تنظيمي لوحدات الدرون وطرق استغلالها والتراخيص الممنوحة لأجلها
6. رقمنة معلومات الرحلات ورقمنة سجل الطائرات وربطها بمنظومة استخبارات الطيران الدولية (مثل PNR – Passenger Name Record).
7. اعتبار المطارات الكبرى مراكز قيادة مدنية عسكرية في حالات الطوارئ مع التحفظ حول المعلومات المتعلقة بالمطارات العسكرية الخالصة واعتبار المطارات المدنية المغربية مطارات مزدوجة الاستعمال للأغراض المدنية والعسكرية.

وفي الأخير فإن اعتبار الطيران المدني قطاعًا ذا طبيعة مدنية فقط لم يعد مقبولًا في السياق العالمي الحالي خصوصا مع تعاظم المخاطر الجيوسياسية، وتوسع شبكات الطيران، وازدياد التهديدات الإلكترونية، وأصبح من واجب الدولة المغربية اعتباره مرفقا مدنيا بروح عسكرية أمنية والإعلان عن ذلك في خطاباتها الرسمية لأن الأمر يتعلق بمرفق سيادي مختلف عن باقي المرافق العمومية الشبكية في طور التحرير . كما أن التحكم في الأجواء لا يقل أهمية عن التحكم في الحدود البرية أو البحرية، بل إن المجال الجوي هو الحد الأخير لسيادة الدولة، ولا ينبغي أن يترك لمصالح السوق أو الشركات أو حتى للمنظمات الدولية دون بوصلة وطنية سيادية واضحة، وهي عوامل حيوية مؤطرة وضابطة لخيار تحرير هذا القطاع بشكل متيقظ.