بنيس: النزوح الافتراضي للشباب.. تحولات القيم في الفضاء الرقمي

بنيس: النزوح الافتراضي للشباب.. تحولات القيم في الفضاء الرقمي سعيد بنيس
يلاحظ حاليا نزوحا جماعيا للشباب من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، خاصة مع التزايد المطرد لرواد الشبكات الاجتماعية، وهو ما ساهم في أن تتحول العديد من الأفعال، التي كانت فردية ومنعزلة في السابق، إلى جماعية اليوم. كما أن أسباب النزوح الافتراضي في علاقته بشريحة الشباب مرده تآكل المرجعيات، وإعادة النظر في المنظومة القيمية. كيف يمكن إذن، التداول في النزوح الافتراضي للشباب بالنظر إلى طبيعة المنظومة القيمية (المادية وغير المادية)، لا سيما مع الطفرة الرمزية التي تتيحها وسائل الاتصال الجديدة؟ وكيف يمكن مقاربة تمفصلات السلوك السياسي والاجتماعي للشباب في علاقته بالبيئة القيمية الافتراضية؟ 

للإجابة على هذه التساؤلات يمكن اعتماد فرضية عامة، مفادها أن مقولة النزوح الافتراضي للشباب، في علاقته بالاحتباس القيمي، تتم عبر انتقال من قيم واقعية مرفوضة إلى قيم افتراضية مفوضة. من هذا المنطلق، يمكن رصد تضارب إشكالات وقضايا العالم الافتراضي مع العالم الواقعي وبعض المرجعيات المجتمعية، انطلاقا من أن العلاقة بين الشباب والقيم سواء في العالم الافتراضي أو الواقعي علاقة متفاوض عليها، بالنظر إلى تراجع القيم غير المادية، وعودة القيم المادية، وراهنية قيم الحياة التي يجسدها الطلب على الخدمات الصحية ومسيرات العطش، وغلاء المعيشة، وعودة بعض الأوبئة … 

يبدو أن التحديات التي يطرحها النزوح الجماعي للشباب إلى العالم الافتراضي، في أفق التحول من مجتمع التواصل إلى مجتمع الاتصال والمكاشفة، قد أثرت على دور محاضن التنشئة (الأسرة والمدرسة والحزب والجمعية والنقابة…)، بالنظر إلى توغل بنيات وسلوكات موازية من قبيل المجموعات الافتراضية والهويات التعويضية والغرائبية الثقافية والانهزامية الهوياتية و"الحريك العلني" والانتحار والتشرميل والعنف الجنسي والانعزالية ("العميقين")… في خضم تراجع مقولة مجتمع المعرفة كمنظومة تؤطر القيم والسلوكات وتحتضن المشاريع العامة للشباب. 

ومن النتائج المباشرة لهذا الواقع، الذي يتقاطع فيه الوطني والجهوي والمحلي، بروز مواقع إلكترونية ترابية على شاكلة منابر "إعلامية" شجعت على سلوكات جديدة وإعادة تسييس الشباب، وبروز جيل متصل عبر تنشئة تفاعلية، ساهمت في تفاقم بؤر التوتر وانتشار قيم العدوانية بين شرائح هذا الجيل، من قبيل التراشق الهوياتي والإثني والإيديولوجي والثقافي واللغوي و"النوعي"… 

مما نتج عنه تناسل أشكال الانهزامية الهوياتية وثقافة الكراهية عبر هوامش رمادية تؤطرها مجموعات افتراضية (جنسية أو عقدية أو ثقافية أو ترابية…) تنهج تنشئة "متوحشة" ترمي إلى خلق احتباس مجتمعي، أساسه التشجيع على العنف المادي والرمزي، تجاه بعض شرائح المجتمع (المرأة – الأقليات…) أو بعض مسلمات المشترك المغربي، من قبيل الدعوة إلى إسقاط الهوية المغربية والتخوين والمس برابط تَمَغْرِبِيتْ. ما يمكن تفسيره بأن معظم "الشباب الافتراضيين" المتدخلين في هذه الحقول لا يثقون في المبادرات السياسية التي ترمي إلى تقصير المسافات بين الهويات والثقافات وترسيخ مجتمع التعدد والتنوع. 

في المقابل، يمكن الإقرار بأن من القيم الجديدة التي أتاحها النزوح الجماعي للشباب إلى العالم الافتراضي يمكن سرد، لا للحصر، قيم الفردانية الجماعية التي من نتائجها تماهي الفرد مع الجماعة، وتماهي الجماعة مع الفرد وخروجه من الانعزالية عبر فعل ديجيتالي جماعي منظم ("مقاطعون" –"مستمرون" -"كلنا إكرام"، "كلنا ريان"…)، حيث يعبر عن الفردانية بصيغة الجمع، وعن الجماعية بصيغة الفرد. كما انتشرت، أيضا، قيم «التضامن المتواصل» بحسب الوقائع والأحداث الراهنة والمتواترة في شكل هاشتاغات أو ملصقات أوصور أوشعارات متضامنة، مع حدث أو شخص أو شعور ما. 

وبرزت، كذلك، قيمة "الرقابة المواطنة"، حيث يصبح الشاب والشابة في تربص مستمر للوقائع والحقائق التي تمس الحياة العامة عبر ثقافة "تبارطجيت " والمجاهرة والفضح، من خلال فعل النشر والمشاركة والتقاسم لكشف وعرض بعض تمظهرات الواقع المعيش. كما طفت على السطح بالموازاة، "القيم المادية" (الصحة والشغل والتعليم والسكن)، وتراجعت "القيم غير المادية"، من قبيل الحريات الفردية وحرية المعتقد والحقوق اللغوية والثقافية وإلغاء عقوبة الإعدام…. وللإلمام بهذه المصفوفة القيمية يمكن الاستعانة بمفهوم "الفاعلية" ، الذي يصف ويفسر قدرة الفرد في الفعل والاختيار، متجنبا ومتحديا العوامل والبنيات المؤثرة (الأسرة- الطبقة الاجتماعية – الدين- النوع – الإثنية – الرابط الاجتماعي- الحزب السياسي…)، التي يمكن أن تحدد وتقنن قراراته وقيمه. 

هذه الوضعية الجديدة تأسست على نمط مغاير من الفعل المواطناتي ألا وهو «المشاركة الديجيتالية»، في مقابل عدم جدوى وتأثير "المشاركة المواطنة". مما نتج عنه تراجع الانخراط في البنيات المنظمة (الأحزاب والجمعيات والنقابات…) وتعويضها بمواقع جديدة للترافع على القيم والمطالب الاجتماعية (ملاعب كرة القدم والمنتديات الرقمية والمجموعات الافتراضية…) تتم التعبئة لها ومركزتها من خلال ممارسة وتعبيرات رقمية و"رباط افتراضي" يرتكز على ثقافة مضادة، مؤسسة على خطاب الممانعة والمظلومية. 

من هذه الزاوية يمكن اعتبار أن فعل "المشاركة الديجيتالية"، خلق فرصا جديدة لتعزيز قيم المواطنة ، لا سيما أن الفضاء الافتراضي أضحى فضاء للممارسة السياسية من خلال النشاط السياسي الديجيتالي، وقناة موازية للوساطة الكلاسيكية، نظرا إلى تراجع دور الأسرة والمدرسة ودور الشباب والمجتمع المدني والأحزاب السياسية وتحييد أثر الشعور بالمواطنة الواقعية وبزوغ نجم المواطنة الافتراضية.