الكتاب يضمّ 470 صفحة، ويتوزّع على أربعة عناصر حصرت بين «ذئبين» هي: طوق الذئب وحيطان الليل وبرج الحمل وخطوات الذئب. وهي أشبه بشجرة ما تنفكّ تنمو؛ وتستنبتُ فروعا في كلّ الاتّجاهات. وبإمكان القارئ أن يأخذ فرعا من هذا القسم أو ذاك، ويركبه وهذا يصنع أيضا كتابا آخر، أو رؤية أخرى وقراءة أخرى، يمكن أن تتّسع لشتّى رموز الرأس، سواء في الشعر أو في الرسم مثل الذاكرة والحدس والهوية؛ بل الاحتفاء بالحياة على هشاشتها. وليس بالإمكان اختزال الكتاب في حقيقة واحدة عند شاعر ماهر، يجمع بين الشعر والفكر، ويدرك وهو الباحث الأكاديمي استئناسا بـ «الفكر المركّب»، إنّ أيّ ظاهرة هي حاصل تركيب معقّد بين عناصر مختلفة. وأقدّر أنّ هذا ما جعله يوزّع الكتاب على أربعة عناصر. وعليه أرى أنّ الحبّ ليس قابلا لأن يُختزل في «الإيروتيكا» أو «اللّيبيدو»، ولا في أيّ حسّ أو أيّ شعور آخر؛ فهو «تركيب» من الانفعالات أو هو سيمياء من الغرائز متشابكة متراكمة، تجعل الحبّ قابلا لأن يُقارن بإكسير، فهو يصنع من عناصر مختلفة، خليطا جديدا ذا نكهة خاصّة غير قابلة لأن تردّ إلى أيّ من هذه العناصر وحده.
إذن قد تكون هذه العاطفة المركّبة التي نسمّيها الحبّ هي التي تهيّئ للثّالث المرفوع ألاّ يكون مرفوعا من بعض نصوص الحبّ في هذا الكتاب. ويكفي أن أتمثّل ببعض الشواهد، وهو ما أتحاشاه عادة عند تقديم كتاب شعريّ؛ إذ يفترض أن يُقرأ النص في كلّيته، عسى أن أقف على أمارات عديدة دالّة على إمكان هذا الثالث، حتّى إن كنت لا أستطيع أن أسمّيه مباشرة فأستدلّ عليه بواسطة تعبير سالب أو مقارن؛ فـ« طوق الذئب» يفتتح بـ «الغرفة»: «فضاء فوضويّ في الغرفة/ كلّ شيء ليس في مكانه إلاّ أنت/ طعم فمك عذب / أريد». هذا المكان المغلق الشبيه بـ «المربّع» يكاد يترجّح في النصّ وما يتولّد منه، بين الملاذ والصمت والرغبة، بل يمكن أن يقرأ أفقيّا وعموديّا، وأن يجمع بين الاستقرار والفوضى.
وهذا يقتضي استدعاء مختلف دلالات مقولة الجنس ومختلف مستويات تدبّرها جماليّا أو معرفيّا. بيْد أنّه لا مناص من القول إنّ الكتابة في الرغبة أو الجنس تنطوي على قَدْرٍ كبير من اللَّبْسِ، هو عينه القدر الذي تنطوي عليه القراءة في الجسد. وهو لَبس مأتاه التّعميم، الذي قد يشوب مفردة الجنس أو الجسد، حيث تُحمل في معنى عامّ على دلالة مطلق الرغبة في هذا الشيء أو ذاك، أو على دلالة الشهوة أو الرغبة بما هي توادد بين البشر. في حين أنّ ما يعنينا في السياق الذي نحن به، إنّما هو المضمون الجنسي، بل «الإيروتيكيّ» الذي يعتري العلاقة بين ذكر وأنثى. وأقدّر ونحن نقرأ هذا الشعر أنّ مداره على مضمون تشتدّ فيه درجة الانفعال «الشّبقيّ» أو تخفّ على نحو لا واع على ما أرجّح، بل إنّ درجة هذا الميل الشّهوانيّ، إنْ سلبا أو إيجابا، هي التي تحدّد دلالة العاطفة التي نسمّيها الحبّ الجسدي ونوعيّتها.
وهذا المضمون ليس مقتصرا بالضّرورة على المعيش البسيكولوجيّ المخصوص بالشاعر، أو المعيش الجسديّ؛ بل إنّه يحوز منزلة ذات شأن ضمن إنشائيّة الكتابة، وحتّى ضمن جينيالوجيا المعرفة.
وإلى ذلك فإنّه منشدّ إلى فضاء تتجاذبه قيم مختلفة ومشاعر مركّبة، يصعب أن نكتنها؛ وهذا النصّ يخفي على قدر ما يكشف، بل هو يستهدفٌ سرديّة الجنس أو «إنشائيّته» لا الجنس؛ أو هو يستهدفٌ الجنس مسرودا مستجلبا مقولات نظير الرّغبة والحاجة والمتعة، وغير ذلك من المقولات والمفردات التي من شأنها أن تنتسب إلى دائرة الممارسة الغراميّة الجسديّة عموما. لكنّ ذلك لا يمكنه أن يحدّ الحبَّ الجسدي حدّا كلّيا صارما، ولذلك يكون من الأجدر أن نتساءل: كيف يتجلّى الحبّ الجسدي؟ بل أهو «جسدي» حقّا أي شبقي كما يقع في ظنّ قارئه؟
بل هو أقرب إلى مباحث جماليّة المتعة أو اللذة، من جهة تخييلها في بعض أنماط الكتابة الإبداعيّة؛ أي الشعر القائم على ارتداء الراغب أو المرغوب فيها أو فيه، رداء اللّغة أو قناعها، أو النّظر إليهما بعين اللّغة. وقد يكون من الصعوبة بمكان، أن نردّ هذه الكتابة الجسديّة إلى الواقع، ما دام الأمر يتعلّق بتنويع شعريّ على نواة «الرأس»، وهو «رأس الشاعر»، حيث خبرة الجسد أو الجنس تظلّ ـ على شيوعها ـ خبرة فرديّة؛ فمثلما يبدع أيّ منّا وحده، ويموت وحده، فأنّه يحبّ وحده أو يضاجع وحده. وقد لا يتعلّق الأمر، في هذا السياق بالمعيش الجسدي الخبريّ لدى الأفراد، وإنّما يتعلّق بجماليّة الجنس ضمن ضرب من ضروب الكتابة الحديثة.
ولكن لا يمكن ألاّ نعيها إلاّ تأويلا، ولعلّ هذا ما استشعره خارج «ثقافة التّأثيم» التي قد يأخذ بها قارئ ما يدين لسلطة «ذكوريّة» ما أو يدين بها.
وبعبارة أخرى فإنّه إذا كان هذا الثّالث ممكنا في الكتابة العشقيّة التي أنا بها في هذا الكتاب؛ فلأنّه يحقّق إمكانه من خلال التّخييل اللّغويّ الذي يسوّغه وإن بنسبة من النّسب. ولذا لا مناص من تنسيب الاعتراف بهذا الثّالث، إذ يحسن أن يؤخذ في الحسبان، ونحن في الصميم من سرديّة عشقيّة خاصّة؛ حتّى لكأنّ العبارة المأثورة في كلّ لغات العالم «أحبّك»، تعني «افتقدك»، أو «أريدك»، هي المدار الشعري الذي يجمع عناصر الكتاب الأربعة. و«أريد» في بعض اللغات« مرادف» لـ «أحبّ» كما هو الشأن في الإسبانيّة. ولعلّها استرفدته من العربيّة. وحجّتنا لهذا (لسان العرب)، فقد جاء فيه، دون خوض في التفريعات اللغويّة: أراد إرادةً الشيءَ: أَحَبَّه وعُنِيَ به، ورغب فيه.
«أحبّك»: أريد أن تكوني لي»، وهذا إنّما يناسب في الظاهر رغبة في التّوحّد أو التّملّك أو الامتلاك. فلعلّ العاشق لا يحبّ إلاّ نفسه! وهذا ما يسوّغ العنوان «رأس الشاعر»، أي رغبة العاشق المحبّ في ما ليس لديه، أي ما ينقصه، فيريد أن يحوزه:
«ربّما ليس لي رأس على كتفي الآن/ لكنّ لي قلبا كالصراخ البعيد ـ وها أنا أحمل ليلتي معي. أتسكّع تحت النجوم. تعاليْ…».
ولعلّ أظهر ما أستخلصه من هذه الكتابة أنّه لا وجود لحبّ سعيد، أو لا سعادة من دون حبّ. فليس ثمّة من حبّ سعيد طالما هو يفتقد موضوعه، ولا سعادة من دون حبّ، طالما أنّها تستمتع به. لكن ثمّة شيء لا يفسّره الحرمان، ولا تفسّره الأفلاطونيّة: هو أنّ هناك عشّاقا سعداء في حزنهم أو حرمانهم، أو أنّ هناك حبّا ليس مردّه إلى نقص أو كبت أو وهْم؛ كما قد يقع في الظنّ، بل إلى فرح ومتعة وحقّ. نعم، هذا شاعر يكتب مغتبطا في الحبّ وبه، ويطعّم عربيّة الشعر بروح جديدة، ويديرها على «موضوعات»، قبل أن تكون محمولة على دلالات الحبّ والغبطة؛ كانت هي بدورها مفاهيم مغتبطة وغاية في الطّراوة، حتّى لكأنّ شيئا منها يعلق باللّسان بعد نطقها. وما زالت بعد تتّسع لهذه الظّاهرة، أو تلك شريطة أن نعرف منبتها الأصليّ في المدوّنة التي تمتُّ إليها بصلة من الصّلات، أو في النّصّ الذي تنتسب إليه؛ وليس عيبا أن نصلها وهي المستحدثة بمدوّنة العشق عامّة قديمها وحديثها، كما أنّه لا ضير في أن نستدعي إلى مفهوم جديد ظاهرة قديمة لنرى إليها من خلاله. ومثلما لا حرج في تهجين الأجناس الفنّيّة أو الأدبيّة، فإنّه لا ضير أيضا في تهجين المفاهيم شريطة مراعاة قواعد التّهجين، حتّى لا يكون المنتـَج مسخا. وهل مناهج التّفكير الفلسفيّ المعاصر ومقارباته من جينيالوجيا وفينومينولوجيا وأركيولوجيا وتفكيكيّة وغيرها، إلاّ رحلة إلى المنابت الأولى للنّصوص والمفاهيم. ولقد كان لنا ولا يزال شعراء برعوا في التّهجين، فإذا به على أيديهم كتابة وإعادة كتابة.