عبدالاله ابعيصيص: محمد الشايب شاعر يختفي في القصة القصيرة

عبدالاله ابعيصيص: محمد الشايب شاعر يختفي في القصة القصيرة عبد الإله ابعيصيص (يمينا) والكاتب المغربي محمد الشايب
إذا كان لابد من اهداء فالملهمة "نعيمة" أولى به
مر زمن طويل عن أول لقاء لي الكاتب المغربي الجميل جدا محمد الشايب. كنت طفلا يافعا أتهجى أولى الحروف، كان صديقا لأخي، وجليسه الدائم في "حانوت الوالد". كان أبي حلاقا وكنت ملزما بالذهاب يوميا إلى الصالون الذي كنا نسميه "الحانوت". كنت أكره الحانوت لأسباب كثيرة لكن حضور محمد الشايب بعيد ظهيرة كل يوم، كان نسمة جميلة تلطف حرارة الشمس الحارقة في صيف بلقصيري كان محمد والشايب وبوسلهام الكط وعبد المجيد الدبدوبي ومحمد الحاضي والسعدية الصوصيني وفريق عمل بلقصيري ونهر سبو سفراء المدينة. إذ لم تكن تذكر بلقصيري إلا مقرونة بفيضان النهر أو بمقابلة فريق المدينة أو بقصة قصيرة للدبدوبي أو قراءة نقدية لفيلم سينمائي للحاضي أو قصة قصيرة للسعدية في إحدى الجرائد الوطنية أو مقالة للراحل الأستاذ بوسلهام الكط في مجلة فكر ونقد التي كان يشرف عليها فقيد الفكر المغربي الراحل الكبير عابد الجابري.. كنت دائما أشعر أن علي ديْنا يجب أن اوفيه لهؤلاء اعترافا بفضلهم علي بشكل خاص ومباشر وعلى المدينة. ترددت كثيرا خوفا واعتبارا لمكانتهم.
واليوم، استجمت بعضا من شجاعة، وقررت أن أكتب، آثرت أن أبدأ بالصديق العزيز محمد الشايب، الشاعر الذي يختفي في القصة القصيرة.
بدأت علاقتي "بسي امْحمد" (بسكون فوق الميم) نهاية الثمانينيات من قرن مضى كنت منتشيا بانتمائي لشبيبة حزب كبير أكتب "شبه قصائد". وكان دائما يستفزني بأسئلة لا أجد لها أجوبة. كنت أحسبه خصما سياسيا يدفعني دفعا للابتعاد عن القبائل والابحار في عالم الشعر والكتابة. مرت الأيام وكبرت وفهمت أن محمد الشايب لم يكن لا خصما ولاهم ينتمون. كان كاتبا، وشاعرا يرى ما أراه اليوم. كان الشايب "ابعيصيص" الذي أنا الذي عليه اليوم. كبرت وتجرأت على الكتابة. واكتشفت وأنا التهم نصوص محمد الشايب أنه لا يشبه إلا محمد الشايب. لكن أسلوبه يشبهه تماما، سلس عذب غزير ومليء بالاستعارات. محمد قليل الكلام، غزير الكتابة، عديم الادى. يتميز أسلوبه بالحس الإنساني العميق واللغة المكثفة، مع ميل إلى تصوير الواقع المغربي في تحولاته الاجتماعية والثقافية. تتسم قصصه أحيانًا بالنبرة الساخرة أو المفارقة، لكنه غالبًا ما يشتغل على تفاصيل الحياة اليومية، ليكشف البعد الرمزي والوجودي فيها. هو باقة من الذكريات. لا يكتب إلا ليتذكر ويذكرنا بشيء واحد:
"الجمال الذي كان".
حتى الخيبات يصورها بشكل جمالي بديع. فرغم كل مظاهر الفقر والهشاشات التي تلحفت بنا وتلحفنا بها إلا أن محمد من خلال قصصه يجعلنا نعشق الماضي لا لنعود إليه ولكن لنطل عليه ونتملاه ونستمتع بما كان فيه من بياضات. ولعل أبرز المواضيع التي اشتغل عليها كاتبنا أو شاعرنا الذي يختفي في القصة القصيرة مواضيع الهامش، الفقر، العلاقات الإنسانية، التقاليد المتغيرة، صراع القيم، والخيبات السياسية والوجدانية.
"دخان الرماد" كانت أولى مجموعاته القصصية، وكم احتفينا بها كنا نتباهى كأننا نحن من كتبها، وبعد ذلك توالت مجموعاته القصصية التي كانت أقرب في اسلوبها بقصائد طويلة "توازيات" "هيهات"، "الشوارع "،"زهرة" ...يحتاج القارئ لنصوص محمد الشايب دروسا أولية في التشبيه والمجاز والاستعارة. لا ليفهم النصوص، بل ليستمتع أكثر. نصوص محمد الشايب تصلح لأن تكون نماذج مدرسية لتدريس الأساليب والبلاغة، بلاغة الامتاع. أغلب أمثلتي في تدريس المجاز والاستعارة استلها من نصوصه. يكفي أن تفتح دفتي أي مجموعة من مجموعاته لتعانقك الصور البلاغية الباذخة. وتنهمر شلالاتها الهادرة. ورغم عدم شهرته الواسعة لدى العموم، التي لا أعتقد أن محمد سعى لها، إلا أنه يُعتبر من الأصوات الأدبية الناضجة التي حافظت على وفائها لجنس القصة القصيرة، وظل يقترف الكتابة بتأمل واحتراف بعيدا عن الأضواء، ما أكسبه احترام النقاد والقراء المتخصصين.
في نصوص الشايب حضور دائم لقضايا الذات، الهامش، اليومي، التحول الاجتماعي، والفجوة بين القيم والتجربة. في نصوص محمد الشايب، لا نقرأ حكايات فحسب، بل نُصغي إلى نبض ذاتٍ تتكلم من الهامش، عن الهامش، وباللغة التي لا تُقال في مراكز الضوء. حضوره السردي ليس صاخبًا، بل هامسًا، لكنه هامس بالحقيقة، بالحياة كما تُعاش لا كما تُروى. هناك دائمًا قضايا تنبثق من بين سطور قصصه، لكنها لا تُطرَح بشعارات جاهزة أو خطاب مباشر، بل تتسلل من خلال تفاصيل اليومي، من التوترات الصغيرة، ومن فجوة صامتة بين ما نؤمن به وما نعيشه.
الذات عند الشايب ليست منغلقة على جرحها، بل منفتحة على أسئلتها. إنها ذات تسائل نفسها والعالم، تمشي على حافة الذكرى والذكريات فالمدرسة والثانوية والجامعة والفرعيات ليست مجرد أماكن تحضن أحداثا وشخصيات بل هي فضاءات محملة بكثير من المشاعر والاحاسيس والنجاحات والخيبات، إنها لحظات ومحطات تتقاطع فيها ذات امحمد الانسان مع امحمد الكاتب الحالم. لحظات ومحطات تكتب كي لا تنسى أو تُنسى. إن هذا الحضور العميق للذات لا ينفصل عن الوعي بالمجتمع وهو يتحول، ينهار أحيانًا، أو يُعاد تركيبه وفق منطق السوق والسلطة والتكنولوجيا. في نصوص الشايب لا تحضر التحولات الاجتماعية بوصفها تحليلًا سوسيولوجيًا، بل كرجّات داخلية تمس الشخصيات وتعيد تشكيل نظرتها للعالم. أما الهامش، فهو ليس فقط فضاءً جغرافيًا أو اجتماعيًا، بل موقف جمالي وأخلاقي. الشايب ينحاز إلى المهمل والمنسي، إلى ما نمرّ عليه دون انتباه. يجعل من العادي مادة للتأمل، ومن المألوف مدخلاً إلى غير المتوقع. إنه لا يبحث عن البطولة، بل عن الأثر، لا يهمه أن يدوّن ما يُقال، بل ما لا يُقال. فكثيرا ما جعل من الشخصيات المهمشة أبطال نصوصه، ومن الأماكن المهجورة فضاءات لحكاياته.
وفي كل هذا، تبدو الفجوة بين القيم التي نحملها، والتي تُدرّس لنا، وبين التجربة الحية التي نعيشها، فجوة مؤلمة، لكنها كاشفة. يلتقطها الشايب ببراعة، لا ليُدين، بل ليُضيء. فالحياة عنده ليست بيضاء أو سوداء، بل طيف متداخل من التناقضات التي تُكوِّننا وتفضح هشاشتنا.
نصوص محمد الشايب لا تبحث عن أجوبة، بل عن طريقة أعمق لطرح الأسئلة.
أعود لأكرر أن أسلوب الشايب يتسم في أغلب مجموعاته بالتكثيف اللغوي والسرد المقتصد الذي يستند على الإيحاء بدل التصريح. اعتماد المفارقة كآلية فنية. ميل إلى التوازي بين وقائع الحياة ومآلاتها الرمزية،
في تقديري يمكن اعتبار كتابات محمد الشايب نقلة نوعية في الكتابة القصصية المغربية، من حيث اشتغالها على التفاصيل اليومية التي تكشف ما هو أعمق من السطح أنها تنتمي إلى موجة التجديد القصصي التي قادها أحمد بوزفور ومحمد زفزاف اللذين يعتبرهما الشايب المعلمين الاولين له في عالم القصة القصيرة والابداع عموما، من حيث الاقتصاد في اللغة والتركيز على البعد الرمزي والمعيش الفردي. محمد الشايب لا يكتب القصة القصيرة كما تُكتب عادة، بل كما تُنصت القصيدة إلى صمتها. هو شاعر متخفٍّ في رداء القص، ينسج جُمَله بنَفَس الشاعر الذي يعرف أن المعنى ليس فقط فيما يُقال، بل فيما يُترك عالقًا بين الكلمات، في تلك المسافة الخفيفة بين الجملة وظلالها.
في قصصه، كل كلمة موزونة بمقياس داخلي لا يُرى، لكنها تُحسّ. لا وجود للثرثرة، ولا للزينة اللغوية المجانية. ما يكتبه محكوم بإيقاع داخلي، بنغمة خافتة لكنها ثابتة، كأن النص برمّته يُقال، يكتب، يرتل على مهل، كما لو أنه يغني لحن الحنين. ولذلك، فإن القصص عنده لا تُبنى على المقومات التقليدية لكتابة نص سردي، الشخصيات الزمان المكان السرد والوصف والرؤية السردية، أو على الحبكة وحدها، بل على الإحساس، على الصورة، على كثافة اللغة، وعلى تلك اللمسة الأخيرة التي تُشبه بيتًا شعريًا يُغلق المعنى ويتركه مفتوحًا في الآن ذاته.
هو لا يصرخ في نصوصه، بل يهمس. لا يُعلّق على ما يراه، بل يُمرّره كمن يزرع المعنى في قلب القارئ دون أن يفرضه. الشعرية عنده ليست مجرد زخرف قد يحضر أحيانا، بل جوهرية في كل نصوصه، رؤية، علاقة حميمية مع اللغة. حتى حين يكتب عن الألم، عن الفقد، عن الخيبة، يفعل ذلك برهافة تجعل القسوة أقل وطأة، أو لربما أشد. لقد منح الشايب للحزن شكلاً من أشكال الجمال.
محمد الشايب شاعر، لكنه اختار أن يختبئ في القصة، لا هربًا من الشعر، بل لأنه ربما أدرك مبكرا أن القصة القصيرة يمكن أن تكون قصيدة مقنعة أو ربما هو الراحل البشير قمري فعل فعلته ووجه شاعرنا من حيث لا يدري.
إن الحكايات عند الشايب حين تُروى بلغة شاعر، تصبح أكثر كثافة، أكثر صمتًا، وأكثر صدقًا. ألم أقل إنه شاعر يختفي في القصة القصيرة.