عبد السلام بنعبد العالي: البلاهة.. اللافكر الذي يحسب نفسه فكرا

عبد السلام بنعبد العالي: البلاهة.. اللافكر الذي يحسب نفسه فكرا عبد السلام بنعبد العالي

ليس من السهل نقل كلمة bêtise الفرنسية إلى اللغة العربية لأنها، حتى في أصلها الفرنسي، تعني أكثر من دلالة. فعندما تدل على تصرف أخرق أو غير عقلاني كأن نقول: Il a commis des bêtises، (To do something stupid ) قد يصح نقلها بـ "حماقات"، فنقول: ارتكب حماقات (Foolishness). وإذا كانت تحيل إلى غباء أو قصور فهم، كأن نتعجب: Quelle bêtise! ، فقد تنقل بـ"غباء(Stupidity )، "فنقول: يا له من غباء! وعندما تقال عن كلام لا معنى له، أو فعل غير جاد كقولنا: dire des bêtises To talk nonsense، تنقل بـ قول هراء أو فعل أخرق. كما أنها تترجم أحيانا مجازيا، بحسب التوظيف الأدبي أو الفلسفي، حيث تنقل بـ"بلاهة"، "عبث"، "فراغ فكري"، خصوصا إن كانت تستعمل بشكل ساخر أو نقدي.

وبصفة عامة، يمكن أن نقول: كان ينظر إلى البلاهة في الفلسفة الكلاسيكية على أنها علامة على نقص عقل أو وعي، لذا ظلت تشير إلى نوع من التبلد، وتعني مجرد غياب للمعارف، وهو غياب كان ينظر إليه على أنه يمكن أن يتدارك من طريق التربية والتكوين. إلا أنها تطورت مع الحداثة لتغدو شيئا مركزيا وتعتبر مفارقة من مفارقات العقل الأداتي.

سنحاول أن نتساءل في ما يلي عما إذا كان يمكن اعتبار البلاهة شكلا من أشكال غياب التفكير رغم توفر أدواته في مقابل العمق والتأمل والكثافة، أم أنها شكل من أشكال الخفة الوجودية؟

سمة بورجوازية

كان فلوبير يقول: "كلما أمعنت في التفكير، بدا لي البشر أكثر بلاهة". في "بوفار وپيكوشيه"، أو حتى في مشروعه غير المكتمل عن "قاموس الأفكار الجاهزة"، ذلك المشروع الذي عمد فيه إلى جمع الكليشيهات و"الأفكار المعلبة" والعبارات الجاهزة التي كان الناس في محيطه يتفوهون بها كي يظهروا بمظهر العارفين بمجريات الأمور، كان يرمي إلى أن يجعل من "البلاهة" سمة مركزية للذهنية البورجوازية. فليست البلاهة عنده مجرد جهل، وإنما هي جهل واثق من نفسه، جهل مكرس يكرر الكليشيهات دون وعي. إنها شكل من أشكال المعرفة الزائفة التي تستقر في الخطاب الشائع، وتبني العالم بلغة مبتذلة.

في رواية "الأبله"، يقدم دوستويفسكي الأمير ميشكين باعتباره "أبله" في نظر العالم، لكنه حكيم في العمق. البلاهة عند الأديب الروسي أقرب إلى طهارة روحية لا يفهمها الناس، مما يجعل صاحبها يبدو غريبا، وربما خطيرا. إنها عدم انسجام مع العنف الرمزي والاجتماعي للعالم، وليست غباء بالمعنى الفج. تطرح رواية "الأبله" سؤالا مزعجا: هل يمكن الإنسان "الطاهر" أن يعيش في عالم مدنس؟ وهكذا فبينما تشكل البلاهة عند فلوبير بنية فكرية جماعية، وتعبيرا عن تكلس الذهنية، فإنها تعتبر عند صاحب "الأبله" مفارقة أخلاقية وفلسفية، تقف عند حدود القداسة أو الجنون.

غير أن الفكر المعاصر لم يعد يكفيه الوقوف عند الحالة النفسية التي يعانيها الأبله، وإنما الحالة التي يعيشها المجتمع، أو، على الأقل، تعيشها فئة من فئاته. ما يهمه في البلاهة ليس كونها بلاهة "طبع"، وإنما كونها "بلاهة وعي"، أي من حيث هي بنية فكرية وليست مجرد سمة شخصية. فهو لا ينظر إلى البلاهة كحالة نفسية فردية، وإنما بعدّها بنية إبستيمولوجية واجتماعية تعمل في المجتمعات، وتسري في الإعلام، والخطاب السياسي، والثقافة الجارية. وبما أنها تتخفى في شكل "فكر"، فإنها تنتج سلطة وهمية، فتعمل على تكريس الرداءة. هناك إذن فرق شاسع بين الجهل الصريح والبلاهة المقنعة بواجهة فكرية، لذا فإنها تستحق التأمل بوصفها أكثر من سذاجة لكونها قوة خفية في الثقافة والمجتمع.

نظام ثقافي

ذلك أن البلاهة، ابتداء من القرن التاسع عشر، وبالضبط انطلاقا من فلوبير كما بيّن ميلان كونديرا، غدت بمعناها الجديد بعدا ملازما للوجود البشري.

لذا، واستلهاما من عنوان كتاب فلوبير، حاول كونديرا تحديدها بقوله: "إنها لا تعني الجهل، وإنما اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة". ذلك أننا لم نعد نعيش في مجتمع يتقنع فيه الجهل بالمعرفة، بل نحيا في زمن تنتج فيه المعرفة نفسها كأداة للبلاهة، إما في شكل آراء جاهزة، وأفكار معلبة، أو في صورة يقينيات تصاغ بعبارات رنانة وتروج بوصفها "تفكيرا". هذا في حين أنها تكرار لصدى فارغ. في هذا السياق، لا تعود البلاهة مجرد خصلة فردية، بل تغدو نظاما ثقافيا، وبنية ذهنية جماعية تتكلم بلغتنا، تعلم أبناءنا، وتتسلل إلى مؤسساتنا.

غير أن ما سيبعث على الفزع هو أن البلاهة لن تمحي أمام العلم والتقنية والتقدم، بل إنها ستزداد تقدما مع "التقدم". وهذا بالضبط ما سيتكرس في ما بعد، حيث ستزداد الأفكار الجاهزة انتشارا مع تقدم وسائل الإعلام، ويتسع مجال اللافكر الذي تنطوي عليه، خصوصا بعد أن يترجمها الكيتش الى لغة الجمال والوجدان.

وعلى رغم ذلك، فإن التحديد الذي يجمله كونديرا في عبارته السابقة يكاد يغفل جوهر المسألة، إذ إنه يقدم اللافكر كأنه يعطينا نفسه في عرائه. فهو، عندما يحدد البلاهة بأنها لافكر، يبرئها إلى حد ما، ويرفع عنها كل "خطورتها"، تلك "الخطورة" التي كان جان كوكتو في ما قبل قد ألح عليها عندما كتب: "إن مأساة عصرنا، هي كون البلاهة تفكر". مأساة عصرنا، ومأساة البلاهة، لا تكمن إذن في كونها لافكرا، وإنما في كونها لافكرا يفكر، فهي لم تعد ذلك الجهل الذي قد يتدارك من طريق التربية والتكوين، ولا فراغ الفكر الذي قد يملأه الانفتاح على السؤال، وإنما غدت تقدم نفسها على أنها فكر، بل كل الفكر، من هنا اكتفاؤها بذاتها، ومن هنا صلابتها وتجذرها، خصوصا عندما ستزداد الأفكار الجاهزة ذيوعا مع انتشار وسائط الإعلام وتقدمها، وعندما تعمل "الصورة" في مجتمع الفرجة، على مخاطبة ملكاتنا جميعها واستثمارها في غرس "البلاهات".

قناع زائف

ليست البلاهة إذن نقيضا للفكر فحسب، بل هي أحيانا قناعه الزائف. إنها لا تكمن في الجهل وحده، وإنما في استقالة العقل وقدرته على الشك، وجرأته على التوقف والصمت أمام ما لا يفهم. لا عجب أن تغدو البلاهة نظاما سائدا، وليس مجرد خلل هامشي، لكونها تعيش في زمن يقاس فيه الوعي بعدد المتابعين، والقول بقابلية التكرار.

إذا ما أراد الفكر إذن أن يقاوم البلاهة، فسيكون عليه أن يتعقب اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة، ويفضح الأساليب التي ينجر عن طريقها الإنسان الحديث الى أن يكون طبق ما تجري به الأمور وعلى شاكلتها con-forme ، إلى "أن يكون أكثر محافظة conformisme من كل المحافظين".

نيتشه

هنا يجد نداء نيتشه كل مبرراته عندما يدعونا إلى "إزعاج البلاهة ومقاومتها Nuire à la bêtise". لا يستعمل الفيلسوف الألماني عبارة "ضرورة القضاء عليها"، إدراكا منه صعوبة القضاء النهائي على البلاهة وكونها لا تنفك تدفع الإنسان الحديث إلى أن يقدم نفسه وفق ما تجري به الأمور ويسعى جهده أن "يجاريها". لذلك ربما لا تجدي هنا المواجهة المباشرة، وإنما استعادة مقام التفكير بوصفه فعلا وجوديا وليس مجرد وظيفة ذهنية. لن يحدد التفكير هنا بعده امتلاكا للمعرفة، بل من حيث هو جرأة على الوقوف في وجه المبتذل، والمألوف الرائج. ليس الفكر صخبا، بل حس داخلي بالمسافة، بالللايقين، بالتواضع المعرفي. في عالم يفيض بالبلاهة المقنعة، يظل الشك موقفا شجاعا، والبطء فضيلة، والصمت أحيانا أكثر بلاغة من القول. هكذا فقط، قد لا نخرج من البلاهة، لكننا نتعلم أن نضيء عتمتها… لا لكي ندين، بل لكي ننهج طريق الفكر.

 

عن مجلة "المجلة"