وتظهر الإحصائيات الرسمية وغير الرسمية أن عددا كبيرا من خريجي الجامعات والمدارس العليا المغربية يفضلون الإستقرار في الخارج، خصوصا في أوروبا، أمريكا الشمالية... الأسباب وراء هذه الظاهرة متعددة، ولكن يمكن اختزالها في ثلاث عوامل رئيسية: ضعف ظروف العمل، غياب الدعم للبحث العلمي والإبتكار، وانتشار المحسوبية والبيروقراطية في عدد من القطاعات.
إن هذه الهجرة تمثل خسارة كبيرة للوطن على مستويات عدة، فمن جهة، يفرغ البلد من موارده البشرية المؤهلة التي يعول عليها في بناء المستقبل، ومن جهة أخرى، تصرف موارد مالية كبيرة على تعليم وتكوين هذه الطاقات، لتستفيد منها دول أخرى في نهاية المطاف.
كما أن هذه الظاهرة تعمق الهوة بين المغرب والدول المتقدمة، وتزيد من التبعية العلمية والتكنولوجية.
ورغم الصورة القاتمة التي ترسمها هذه الظاهرة، إلا أنها لا تخلو من بارقة أمل، إذ يمكن للمغرب أن يستثمر في كفاءاته بالخارج من خلال تشجيعهم على العودة، أو على الأقل خلق آليات تعاون فعالة تمكنهم من الإسهام في تنمية بلدهم وهم في مواقعهم بالخارج، سواء عبر نقل التكنولوجيا، أو دعم المشاريع الناشئة، أو المساهمة في التكوين والبحث العلمي.
إن التصدي لهجرة العقول لا يمر فقط عبر الخطابات، بل عبر سياسات فعلية تعيد الثقة إلى الشباب المغربي في مؤسساته، وتخلق بيئة علمية ومهنية حاضنة للإبداع والمبادرة.
ومن هنا، تصبح الحاجة ملحة لإصلاح المنظومة التعليمية والبحثية، ومحاربة الفساد، وتحفيز الكفاءات على البقاء والعطاء داخل الوطن.
في الختام، يبقى مستقبل المغرب رهينا بقدرة مجتمعه على الإحتفاظ بخيراته البشرية وتوفير الظروف الكفيلة بتفجير طاقاتها. فالعقول هي الثروة الحقيقية، والإستثمار فيها هو الإستثمار الأذكى والأجدى لأي أمة تطمح للنهوض والتقدم.
وأن السؤال المطروح اليوم، والذي ينبغي أن يكون محور التفكير والنقاش، هو:
"كيف يمكن للمغرب أن يوقف نزيف هجرة العقول ويحوله إلى رافعة للتنمية بدل أن يكون عائقا أمام التقدم؟"
هذا السؤال سيدفع إلى البحث عن حلول عملية ومستدامة، بدل الإكتفاء بتوصيف الظاهرة، إنه يضع الجميع أمام مسؤولية جماعية: دولة، مجتمع، أفراد، ومؤسسات، لإعادة بناء الثقة وتحقيق بيئة حاضنة للطاقات.