يشكل مؤلف أنطولوجيا لصاحبه حميد برادة درسًا بليغًا في مجال الحوار الصحافي. وهو مؤلف يؤرخ لأحاديث أجراها الصحافي المخضرم خلال المرحلة الممتدة ما بين 1977 و2012، ونموذجًا تطبيقيًا مهنيًا رفيعًا لهذا الجنس الإعلامي الذي لا تخفى أهميته في ميدان الصحافة.
فهذه الأنطولوجيا الصادرة باللغة الفرنسية سنة 2025، هي أكثر من حوارات صحافية مختارة، من إعداد حميد برادة الصحافي والمثقف، التي يرسم من خلالها ملامح ذاكرة نشطة حول تاريخ المنطقة المغاربية والقارة الإفريقية ومسارات الأنظمة الناشئة في فجر استقلال عدد من البلدان، كما جاء في ظهر الكتاب الواقع في أزيد من 700 صفحة من القطع المتوسط.
بحضوره النموذجي كصحافي متخصص في الحوار والتحقيق، ينسج حميد برادة علاقة حميمية مع محاوريه من خلال قيامه باسترجاع شظايا ذاكرة متناثرة، ويستعد عبر زمن حكى أوجها من التاريخ الغني، للحفر في ثغرات الروايات الشخصية.
فمن خلال تقديمه أصوات محاوريه الذين طبعوا مرحلتهم بطابعهم الخاص (مناضلون، كتاب، منفيون، مدانون، ثائبون، محكومون بالإعدام، من بينهم حميد برادة نفسه)، تصبح "أنطولوجيا الحوارات" ليست مجرد شهادات فقط، بل أيضًا بمثابة تكريم لمحاورين استثنائيين. وهذا التوازن الحاد، الذي يتحول فيه الحوار الصحافي إلى فن راقٍ، هو بلا شك الأسلوب الذي يتميز به صاحب الكتاب.
ففي الوقت الذي أجرى فيه أول حوار تتضمنه هذه الأنطولوجيا، كان حميد برادة يبلغ من العمر 37 عامًا، لكنه في هذا السن كان يحمل وراءه حياة أخرى، حياة نضالية، جايل خلالها عدد من وجوه اليسار المغربي، كما يذكر الكاتب والباحث والمترجم عمر برادة في مقدمة هذه الأنطولوجيا التي تتضمن 35 حوارًا صحافيًا أجراها حميد برادة مع شخصيات من عوالم السياسة والثقافة والنضال، طبعت مراحل من التاريخ السياسي لدول مغاربية وإفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال، في مقدمتهم الراحل الحسن الثاني الذي خصه بأول حديث يجريه مع صحافي مغربي، وليبولد سيدار سنغور الرئيس السنغالي الأسبق، وأحمد بن بلة أول رئيس جزائري.
كما كان حميد برادة يهوى محاورة شخصيات تفضل الابتعاد عن الأضواء والاشتغال في الظل، وتتضمن الأنطولوجيا في هذا الصدد حوارًا مع كل من وسيلة بورقيبة عقيلة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، ومحمد رضا أكديرة مستشار الحسن الثاني.
كما اهتم في هذه الحوارات التي يحتويها الكتاب بالزعماء السياسيين من الحركة الوطنية الذين ناضلوا من أجل الاستقلال بالمغرب مثل عبد الرحيم بوعبيد، عبد الرحمان اليوسفي، والفقيه البصري، أو في الجزائر مثل الحسين آيت أحمد ومحمد حربي.
كما تضمن الكتاب حوارات مع شخصيات فرنسية ذات معرفة جيدة وقرب من إفريقيا مثل جان لا كوتير وميشيل جوبير وأوبيرت فيدرين. وأخيرًا، أجرى المؤلف عدة حوارات مع عدد من المفكرين والكتاب كعبد الله العروي، رشيد الميموني، جمال الدين بن الشيخ، آسيا جبار، ومحمد الطوزي.
من خلال قراءة هذا المؤلف، يتضح بجلاء أن صاحبه يعيش السياسة كمغامرة روائية. فحواراته، فضلًا عن كونها توفر زادًا غنيًا من الأخبار، فإنها تترك مجالًا لتحريك الخيال، حسب عمر برادة.
كانت أنطولوجيا حوارات حميد برادة قد قُدّمت ضمن فعاليات البرنامج الثقافي لمجلس الجالية المغربية بالخارج في 27 أبريل 2025، في ختام الدورة 30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، وذلك بحضور فعاليات من عالم الفكر والإعلام والسياسة والثقافة، حيث سلطت بالخصوص الضوء على التاريخ السياسي العربي، خاصة بعلاقته بفرنسا، ما بين سنوات 1970 و2000.
كما أماطت اللثام على مجموعة من "أسراره"، منها المصادفة التي جعلته يعبر عن موقفه الرافض لحرب الرمال سنة 1963 من قلب الجزائر، في نفس اللحظة التي كان الشهيد المهدي بن بركة يعبر فيها عن نفس الموقف من قلب القاهرة دون سابق تنسيق بينهما، وهو ما كلفهما حكمًا غيابيًا بالإعدام.
يظل حميد برادة علامة فارقة في التاريخ المغربي الراهن، وهو ما يجعل الأجيال الجديدة من الباحثين والصحفيين مطالبة بالنهل من تجربته وإنتاجه، قلما نجد شخصًا مثله متمكنًا من المعرفة العميقة بنخب ومجتمعات وعقليات الفرنسيين والجزائريين والمغاربة، حسب الجامعي والباحث في العلوم السياسية محمد الطوزي في معرض قراءته للأنطولوجيا خلال لقاء مجلس الجالية المغربية بالخارج بالمعرض. كما أشاد الطوزي بمهنية الكاتب العالية، ومصداقيته، وتقيده بضبط المعطيات والتأكد من المصادر قبل نقلها إلى الجمهور.
حميد برادة تحدث من جهته عن مساره السياسي والنضالي، وانخراطه السياسي وعمله كصحافي في فرنسا وفي المغرب، موضحًا أن ما ميز تجربته هو "الحرية في الدفاع عن الأفكار حتى وإن كانت لا تحظى بالقبول". كما توقف عند عدة محطات من التاريخ السياسي الوطني، والسياقات التي رافقت إعداده للحوارات التي أجراها، وبعض الذكريات التي جمعته مع أهم الشخصيات التي احتك بها في مساره المهني الطويل.
ويشير كتاب "أنطولوجيا الحوارات" إلى أن حميد برادة الذي وُلد في الثالث من ديسمبر 1939 بطنجة، ينحدر من أسرة وطنية تم نفيها من فاس خلال المرحلة الاستعمارية. هو صحافي ومثقف مغربي، ترعرع في "المنطقة الدولية بطنجة"، وتتلمذ في المدرسة الإسلامية الحرة التي كان مديرها آنذاك العلامة عبد الله كنون، ثم التحق بثانوية (ريكنولت).
ومنذ فترة شبابه، انخرط في العمل السياسي، وانتخب سنة 1962 رئيسًا للاتحاد الوطني لطلبة المغرب. ونتيجة نشاطه السياسي، حُكم عليه بالإعدام غيابيًا سنة 1963، فغادر إلى الجزائر لاجئًا، قبل أن ينتقل منها إلى فرنسا التي ظل مقيماً بها إلى غاية سنة 1978، بعد استفادته من العفو ليعود إلى بلاده الأصلية.
حميد برادة الحاصل على دبلوم في الفلسفة والحقوق والسوسيولوجيا السياسية، التحق بمجلة "Jeune Afrique" وأصبح كبير المراسلين بها، وتولى بعد ذلك رئاسة تحرير هذه المجلة الصادرة في باريس ما بين 1974 و1985. كما كان متعاونًا دائمًا معها قبل أن يعين مديرًا للمنطقة المغاربية والشرق الأوسط بها.
كما قام حميد برادة، المقيم بالدار البيضاء منذ سنة 2012، بتنشيط البرنامج الثقافي "Mais Encore" على القناة الثانية ما بين 2007 و2018، فضلًا عن إعداد برنامجين وثائقيين.
وشارك المؤلف، الأستاذ الجامعي إلى غاية إحالته على التقاعد، كشاهد في الجلسات المغلقة لهيئة الإنصاف والمصالحة التي تأسست سنة 2004.
فمثل حوارات برادة - كما هو شأن الكتابات الصحافية - قد تسعف الباحث في رصد واستقصاء وقائع التاريخ السياسي والاجتماعي والإعلامي، مع العلم أن بدايات الصحافة في غالبيتها ارتبطت بالعمل السياسي والثقافي.
غير أن الكتابة في الصحافة، بصفة عامة، قد تخضع لقراءات متعددة وتحليلات مختلفة، ويكون بعضها خارج النص، بالتركيز على مواقف الصحافي أو الكاتب، وأحيانًا متحاملة، ولا تنفذ إلى عمق ما هو منشور، على الرغم من أن صاحبها قام بما يلزم، وما لا يلزم، حتى من "رقابة ذاتية" واحترازات