في أعقاب عودة ترامب إلى البيت الأبيض عام 2024، لم يكن ماسك مجرد داعم مالي؛ لقد كان أحد أركان المشروع الجديد لإعادة رسم الدولة الأميركية. ضخ مئات الملايين لدعم الحملة، ثم تولى رئاسة وزارة كفاءة الحكومة، وهو ابتكار إداري هدفه المعلن تقليص الإنفاق الفيدرالي بمقدار تريليون دولار. وعلى مدى أشهر، بدا أن الانسجام بين “الرئيس الشعبوي” و”الرأسمالي التكنولوجي” يعيد تعريف مفاهيم الحكم الأميركي. جلس ماسك في قلب الدولة، حضر الاجتماعات الوزارية، وشارك في تصميم آليات المراجعة الفيدرالية.
لكن الانسجام لم يدم طويلًا. مع بداية ربيع 2025، بدأت تظهر تشققات في جدار الثقة. تصريحات ماسك المتكررة على منصة X، حول الهجرة والضرائب، ونتائج سيئة لبعض المرشحين المحافظين الذين دعمهم، دفعت ترامب إلى مراجعة حساباته. وبدأ الحديث داخل البيت الأبيض عن ضرورة “تقليص ظهور ماسك”، وربما “إخراجه بهدوء”.
الانفجار العلني وقع في مطلع يونيو. عند مناقشة مشروع ترامب الاقتصادي الجديد، والذي سُمي بجرأة “قانون واحد كبير وجميل”، انقلب ماسك على الرئيس علنًا. وصف المشروع بأنه أكبر زيادة ضريبية في التاريخ، وشكك في قدرته على خفض العجز، وذهب إلى حد المطالبة بعزل ترامب. لم يتأخر الرئيس في الرد: تهديد بإلغاء كل العقود والدعم الفيدرالي لشركات ماسك، ووعد بتوفير “مليارات ومليارات” من خلال طرد “المخادعين”. بذلك، لم يعد الخلاف مجرد تعارض في الرؤى، بل مواجهة مفتوحة بين رأسين لا يقبلان الند.
النتائج لم تكن سياسية فقط. الأسواق اهتزت. تيسلا خسرت من قيمتها السوقية، وشركات مثل سبيس إكس وجدت نفسها في مرمى تهديدات الرئيس. ماسك رد بأنه سيوقف صواريخ الفضاء المستخدمة في تزويد محطة الفضاء الدولية، في خطوة تهدد التوازن الأميركي في الفضاء. لم تعد المسألة خلافًا داخل البيت الأبيض، بل أزمة تمس الأمن التكنولوجي للدولة.
ثم جاءت الضربة الأثقل من الكونغرس. تقرير موسع من لجنة التحقيقات الدائمة في مجلس الشيوخ كشف أن شركات ماسك تواجه مليارات الدولارات من الغرامات والعقوبات المحتملة، عبر عشرات القضايا والتحقيقات الفيدرالية. تيسلا، نيورالينك، سبيس إكس، تويتر… جميعها على قائمة المراجعة. وكانت الرسالة واضحة: إمبراطورية ماسك ليست فوق القانون، ولا محصنة من مساءلة الدولة.
لكن الساحة الأخطر لم تكن في أروقة المؤسسات، بل على منصة X. هناك، اشتعلت حرب الكلمات. ماسك لمح، دون دليل، إلى ارتباط ترامب بملفات جيفري إبستين. ترامب رد باتهامه بالجنون، وألمح إلى أن ماسك لا يستطيع العيش خارج دائرة الضوء الرئاسي. المتابعون على المنصة لم يفوتوا العرض: محللون، ساخرون، مستثمرون، ومواطنون عاديون، جميعهم تابعوا تفاصيل “الانفصال الكبير” كما لو أنه موسم جديد من مسلسل أميركي طويل.
وفي خلفية هذا كله، بدأت تلوح ملامح المعضلة الكبرى: هل يمكن لرجل أعمال يرتبط بعقود حكومية تفوق عشرة مليارات دولار أن يكون في قلب الدولة، دون أن يمثل خطرًا على استقلالها؟ ترامب نفسه أشار إلى هذا الإشكال، حين رفض اطلاع ماسك على سيناريوهات عسكرية محتملة ضد الصين، بسبب ارتباط تيسلا العميق هناك. لم يكن ذلك مجرد تحفظ إداري، بل اعتراف نادر من ترامب بحدود الثقة في عصر امتزج فيه المال بالسياسة حتى أصبح من الصعب التمييز بين الاثنين.
هكذا إذًا، تحوّل الصراع بين ترامب وماسك إلى مرآة تعكس هشاشة النظام الأميركي حين يتنازل عن ضوابطه لصالح رجال لا يؤمنون إلا بالقوة والولاء. لم يعد الخلاف مجرد مشادة بين رجلين نافذين، بل اختبارًا صارخًا لسؤال جوهري: من يحكم أميركا في النهاية؟ هل هو الرئيس المنتخب؟ أم صاحب الأقمار الصناعية والخوارزميات والمنصات الرقمية؟
في قلب هذا المشهد، لا توجد إجابات سهلة. فقط ضجيج. والأسواق تترنح. والدولة تراقب، والعالم ينتظر.