سعيد يقطين: 2030.. كأس العالم… كأس العِلم

سعيد يقطين: 2030.. كأس العالم… كأس العِلم سعيد يقطين
لا تخفى أهمية تنظيم كأس العالم في المغرب. لقد عجل بإنجاز مشاريع كبرى وحيوية ظلت مؤجلة منذ الاستقلال، لكن إذا لم يواز تنظيم كأس العالم في 2030 تفكير في تطوير «كأس العِلم» ستكون العلاقة غير متكافئة ولا عادلة، وأي خلل تكون له نتائج غير متلائمة، لأن أولهما عابر، أما الآخر فدائم. إن كأس العلم أساسه التعليم الذي به خرجت الأمم المتطورة من تخلفها. ولعل أكبر المشاكل استعصاء على الحل في المغرب والوطن العربي هي مشكلة التعليم. مشكلة التعليم لا تحل بقرارات وزارية. منذ الاستقلال والسياسة التعليمية مبنية على الارتجال والتجريب والتسرع. فكل وزير يأتي ليلغي ما بدأه من سبقه، ويبدأ تجربة جديدة قابلة للتجاوز بحلول وزير جديد، وكأن التعليم المغربي بلا تاريخ قابل للتطوير. يدفعنا هذا الوضع الملتبس والقائم على التخبط إلى طرح أسئلة من قبيل: ماذا نريد من التعليم؟ ومن هو المواطن الذي نسعى إلى تكوينه؟ وما هي مردودية التعليم على واقعنا ومستقبلنا؟ عندما لا نطرح هذه الأسئلة ونعمل على الإجابة عليها بناء على بحوث ميدانية تقوم بها فرق بحثية متخصصة، في ضوء ما يفرضه واقعنا وخصوصيتنا التاريخية والثقافية، سنظل ننسخ التجارب الأخرى، وعندما نفشل في تطبيقها نجرب غيرها، وهكذا دواليك.
إن سؤال المواطن الذي نريد، هو السؤال الذي لم نفكر فيه بالصرامة المطلوبة. لا يتعلق الأمر بمحو الأمية، ولا بالتوظيف، ولا بالكفاءة، فهذه متطلبات لا تعلو على الضرورات المتعلقة بجوهر الإنسان الأخلاقي، لأن من دونها تكون تلك المتطلبات غير ذات جدوى. فلا معنى لمحو الأمية الأبجدية، ولا لتوظيف ولا كفاءة دون إنسان يعرف أن له واجبات عليه الاضطلاع بها على الوجه الأمثل، وأن له حقوقا عليه أن يعيها ويعمل على تحقيقها بوعي ومسؤولية. لا يتعلق الأمر بالمواد أو باللغات التي نُدرِّسها. لقد تم إحلال التربية الإسلامية محل الفلسفة بدعوى أن الأخيرة أخرجت اليسار. ولما تراجع اليسار وبرز الإسلاميون تم استدعاء الفلسفة لتواجههم. تم تعريب الرياضيات وعدنا إلى فرنستها. كانت الفرنسية مهيمنة، وبدأنا ندرس الأمازيغية، وها نحن نريد ولوج الإنكليزية، فإلى أين المسير، وقد بدأت الصينية تفرض وجودها؟
لا يتعلق الأمر بالفلسفة ولا بالإنسانيات، أو اللغات، أو العلوم عامة، ولكن بكيفية جعلها مؤهلة لتنشئة أجيال قادرة على رفع التحدي الأكبر: الارتقاء بالإنسان ليكون جاهزا لخدمة الوطن ومستوعبا روح العصر الذي يعيش فيه. هذا هو الجوهر الذي يُمكنه خدمة غيره من القضايا الدائمة أو الطارئة.
فكيف يمكننا مواجهة الوضع الذي يعرفه واقعنا التعليمي؟ أبتطويره ليخلق لنا المواطن الصالح؟ أم بالإبقاء على واقع التعليم مجالا للتجريب والارتجال والتسرع؟ في الحالة الأولى نكون نخطط لمستقبل أحسن. أما في الحالة الثانية فإننا نبقي على واقع غير قادرين على توقع ما يمكن أن يخلق لنا. إن التخوف من المدرسة لأنها تخلق «المواطن» لم يبق ما يبرر بقاءه في التصور السياسي العربي في الألفية الجديدة. أليس العدو العاقل خير من الصديق الجاهل؟ إن كل التصورات التي هيمنت في الستينيات والسبعينيات مع اليسار، لم يبق لها أي مبرر للاستمرار. ويمكن قول الشيء نفسه لما وقع في التسعينيات وبداية الألفية مع الإسلام السياسي. تفرض تطورات الذكاء الاصطناعي والعلوم المعرفية والصراع على الهيمنة والقدرة على المنافسة تصورات جديدة ومدروسة لممارسة مختلفة للسياسة والتعليم.
لقد جربنا كثيرا من الروض إلى العالي. خلقنا المدارس الخاصة لمواجهة العمومية، وكليات متعددة الاختصاصات، وها نحن نطرح الآن مدرسة الريادة. لماذا تتعدد مدارسنا، ونميز بينها؟ ما الفرق بين التعليم العام والخاص والأخص؟ بين الكليات ذات الاستقطاب المفتوح والمغلق؟ لماذا نكوِّن نخبة من خيرة تلامذتنا وطلبتنا في معاهدنا العمومية والخاصة، ليعملوا في فرنسا وكندا وأمريكا؟ بينما نترك غيرهم دون التكوين المناسب الذي يؤهلهم للتطور ويوفر لهم العمل الملائم؟
هل نكوِّن مواطنين أكفاء ليستفيد منهم وطنهم بلا تمييز؟ أم بذريعة التكوين الأفضل نُعِدّهم ليكونوا أدمغة مهاجرة؟ بينما نبقي مواطنينا الآخرين نهبا لمدرسة عمومية، دون المطلوب سواء على مستوى بنياتها التحتية أو أطرها التي لم تبق تحظى بالتقدير والإجلال، حتى صرنا نراها تتعرض للسخرية والضرب من التلاميذ، وبتنا نرى بعضها الآخر موضوعا لا يشرّف الأسرة التعليمية في وسائل التواصل الاجتماعي؟ الكل يتحمل مسؤولية ما آل إليه واقعنا التعليمي. فهل ما نقوم به لتنظيم «كأس العالم» في الكرة لا يستحق أن نضطلع به للتفكير الجاد في «كأس العلم»؟
منذ الاستقلال ونحن نتحدث عن إصلاح التعليم، لكننا كلما مرّ الزمن وجدنا أن ما كان في الماضي يتطلب الإصلاح ظل أحسن مما يتحقق كلما طرح بديل جديد لما كان سابقا. تهدر أموال طائلة جدا في سبيل تطوير التعليم، لكن غياب المحاسبة والمتابعة جعل تلك الأموال تروح إلى غير سبيلها. لقد تم تدمير المدرسة العمومية، في المدينة والبادية. ولم يؤتِ التعليم الخاص ما كان يرجى منه. ماذا ننتظر من الكليات متعددة الاختصاصات؟ ومن مدرسة الريادة؟ ألم تقم المدرسة العمومية منذ الاستقلال، وحتى الثمانينيات بدورها في تكوين الأطر التي ظل يفخر بها المغرب في كل الاختصاصات؟ بل إنها ما تزال تضطلع بدورها، إلى الآن، رغم كل ما لحق بها من تهميش وتيئيس وتبئيس؟
إنه دون تحديد جديد للمنظومة التربوية والتعليمية، ودون رؤية جديدة لسؤال ماذا نريد من التلميذ والطالب والمعلم والأستاذ؟ ودون تدقيق الرؤية الاستراتيجية التي نريد لتعليمنا، وما السبيل لتحقيقها سنظل ندور في حلقة مفرغة. لا أريد مقارنة تعليمنا بالصين أو أي دولة كانت في مثل واقعنا، إلى وقت قريب، ونجحت في أن تصبح دولة تفرض لغتها ونفسها عالميا.
نتحدث دائما عن كون التعليم قاطرة التنمية، ونؤمن جميعا بأنه أساس التقدم. فما الذي يجعلنا عاجزين عن ترجمة هذا واقعيا. إن ما بدأت به الدولة الإسلامية إبان البعثة هي بناء المسجد ليس فقط لأداء الشعائر، ولكن أيضا لتكوين الإنسان المتعلم. ومنذ الفتح الإسلامي للمغرب كان المسجد أولا، والزاوية ثانيا منطلق تشكيل إنسان جديد كوَّن الإمبراطوريات، وحافظ على وحدته واستقلاله. وحين نقارن التعليم في تاريخ المغرب بالأندلس، نرى ابن خلدون يقف على الفرق بينهما: «فأمّا أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرّسم ومسائله، واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث، ولا من شعر ولا من كلام العرب، فهم لذلك أقْومُ على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأمّا أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، إلّا أنّهم لا يقتصرون عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشّعر في الغالب والتّرسل، وأخذهم بقوانين العربيّة وحفظها وتجويد الخطّ والكتاب. ويستشهد بما ذهب إليه أبو بكر بن العربي، «حيث قدم تعليم العربيّة والشّعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس».
تحكمت شروط في التمايز بين التجربتين على مستوى الفنون والعلوم والآداب. لكننا في العصر الحديث، وبالاستفادة من التعليم العربي والفرنسي، من خلال المدرسة العمومية العتيقة أو الأصيلة أو العصرية بتنا أمام تكوين أجيال قادرة على التحدي مغربيا وعربيا وعالميا. فهل التعليم الخاص المغربي الذي لا يعترف بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، قادر على أن يكون بديلا عن العمومي؟
أنعمْ بالمشاريع الكبرى لكأس العالم! وما أروعَ مصاحبتها بما يتصل بكأس العلم!