في افتتاح ندوة "الدولة الاجتماعية: المرجعيات، السياسات والرهانات"، التي احتضنتها كلية الحقوق السويسي بالرباط يوم الثلاثاء 20 ماي 2025، قدم أحمد بوز، منسق فريق البحث في الأداء السياسي والدستوري ورئيس شعبة القانون العام بالكلية، مرافعة تدافع عن الوجه الحقيقي للجامعة المغربية، عكس "التنميط" الذي يريد اختزالها وربطها بالفساد والاتجار في الشهادات.
وبسط أحمد البوز مجموعة من الصور والوجوه المشرقة للجامعة المغربية التي قال إنها لا تزال قادرة على الانخراط الواعي والمسؤول في قضايا المجتمع، وفي صياغة البدائل ومساءلة السياسات، وفي تثبيت القيم.
"أنفاس بريس" تنشر النص الكامل لمداخلة الأستاذ أحمد البوز:
" يسعدنا اليوم أن نلتقي في رحاب هذه الكلية العريقة، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – السويسي، في إطار هذه الندوة العلمية، التي تنظمها شعبة القانون العام وفريق البحث في الأداء السياسي والدستوري وماستر الدراسات الدستورية والسياسية والإدارية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي، والتي نطمح من خلالها إلى فتح نقاش هادئ، رصين، ومتعدد المقاربات حول موضوع يشغل اليوم حيزا كبيرا في النقاش العمومي، كما يحظى باهتمام متزايد داخل الأوساط الأكاديمية وصناعة القرار، ألا وهو موضوع "الدولة الاجتماعية: المرجعيات، السياسات والرهانات".
وقبل التطرق إلى مضمون الندوة، أسمحوا لي أن أتقاسم معكم مشهدا بسيطا، لكنه معبر. في بداية هذه السنة وفي محفل بهيج أطلق اسم العميد المؤسس الراحل عبد الرزاق مولاي رشيد على هذا المدرج الذي يحتضن نشاطنا اليوم باعتباره الأول من نوعه الذي بني بهذه المؤسسة لحظة ولادتها في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، عرفانا له بما أسداه من خدمات جليلة لهذه الكلية وبالدور المشرق الذي كان له كأستاذ قدير ضمن أساتذة كليات الحقوق بالمغرب.
ويوم الجمعة الماضي، احتضنت كليتنا هاته نشاطا متميزا كرم من خلاله ثلة من الأستاذات والأساتذة زميلا لهم، هو أستاذ العلوم الاقتصادية نجيب أقصبي، أحد الوجوه البارزة التي أعطت الشيء الكثير للجامعة المغربية، علما والتزاما ونكرانا للذات.
واليوم الثلاثاء 20 ماي 2025، نلتئم من جديد في هذه القاعة، رفقة نخبة من الباحثين والخبراء وصناع القرار، وجميعهم من خريجي الجامعة المغربية، الذين واصلوا مساراتهم العلمية والمهنية بتميز ووفاء لقيمها، ليس لنتذكر هذه المرة ما أنجبته هذه المؤسسة من كفاءات وإنما لمناقشة موضوع على درجة كبيرة من الأهمية.
وانطلاقا من يوم غد الأربعاء سيشهد هذا الفضاء نفسه تنظيم زملائنا في مختبر الدراسات والأبحاث القانونية والسياسية والمعهد الجيوساسي التطبيقي الدورة الرابعة من الملتقى الدولي حول "الرهان الأوروبي على الهجرة في إفريقيا: نموذج جديد للتعاون أم طريق مسدود؟"
وبعد يومين من الآن، أي يوم الخميس القادم، ستحتضن شقيقتنا كلية الحقوق أكدال ندوة أخرى حول موضوع القانون التنظيمي للإضراب من تنظمي الجمعية المغربية للقانون الدستوري.
إنها مجرد أمثلة من عشرات إن لم أقل مئات المشاهد، التي يعصب علي تعدادها، والتي تؤكد أن الجامعة المغربية لا تزال فضاء منتجا للفكر، ومساهما في إعادة تشكيل الوعي الجماعي، وساحة للحوار المؤسساتي والمعرفي المسؤول، وأنها لا تزال قادرة على أن تكون ساحة للإبداع، والحوار، والنقد، والمبادرة.
إنها مجرد أمثلة تعكس الوجه الحقيقي للجامعة المغربية، الجامعة التي نؤمن بها وندافع عنها، لا تلك الصورة النمطية التي يراد أحيانا اختزالها في بعض مظاهر الفساد أو الرداءة وانعدام الضمير.
نحن هنا، من خلال هذه الندوة، لنؤكد أن الجامعة لا تزال قادرة على الانخراط الواعي والمسؤول في قضايا المجتمع، وعلى أن تكون طرفا أصيلا في صياغة البدائل، وفي مساءلة السياسات، وفي تثبيت القيم، بالرغم من بعض الصعوبات التي تواجهها.
ومن أجل ذلك، استدعينا ثلة من المسؤولين في مواقع متعددة، ومن الباحثين والخبرات في مجالات متنوعة، لكي نتناقش بهدوء ومسؤولية حول مفهوم "الدولة الاجتماعية"، باعتباره أحد أبرز الرهانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مغرب اليوم، وأظنها ستظل كذلك خلال الغد القريب.
لقد التقت إرادتنا، كمؤسسة أكاديمية، وكبنية بحث، مع إرادة المرصد الوطني للتنمية البشرية، في شخص رئيسه الأستاذ والصديق عثمان كاير، الذي ينتمي هو الآخر إلى هيئة التدريس في الجامعة المغربية، لنؤسس جميعا لشراكة استراتيجية بين مؤسسة وطنية ومؤسسة جامعية، هدفها الأساسي تعزيز جسور التعاون بين البحث العلمي وصياغة القرار العمومي، وربط الجامعة بمحيطها المؤسساتي والمجتمعي، بما يخدم مسارات التنمية والعدالة الاجتماعية في بلادنا.
ومن أجل ذلك أيضا، دعونا هذا الحضور المهيب، من أكاديميين وطلبة ومهتمين، لكي يشاركنا هذا الانشغال، ولكي يكون شاهدا على أن الجامعة، التي هو جزء منها، لها دور أصيل في بناء الدولة الاجتماعية، ليس فقط بوصفها فضاء للتكوين والتعليم، بل باعتبارها كذلك حاضنة للفكر النقدي، ومنبرا للنقاش العمومي الرصين، وفاعلا في إعادة تشكيل التوازن بين الدولة والمجتمع.
والجامعة، في هذا السياق، ليست مجرد مكان لتلقين الدروس أو إجراء الامتحانات، بل هي ـ أو ينبغي أن تكون ـ منصة لتفكيك المفاهيم، لتقييم السياسات، لتوليد الأفكار، ولتكوين مواطنين قادرين على النقد، وعلى المبادرة، وعلى اقتراح البدائل.
كما أن الدولة الاجتماعية، كما نطرحها اليوم للنقاش، ليست مجرد شعار سياسي أو وعد انتخابي، بل هي أفق مجتمعي، ومشروع حضاري متكامل، يتطلب رؤى واضحة، ومؤسسات قوية، ونخبا متشبعة بثقافة الحق، والمساءلة، والتكافل، والعدالة الاجتماعية. وهو ما لا يمكن أن يتحقق دون إشراك الجامعة كفضاء لإنتاج المعرفة، وتأطير النقاش، وتخريج الكفاءات المؤهلة لبناء مغرب متضامن، عادل، ومتوازن.
إننا نحتاج إلى التفكير في الدولة الاجتماعية، لا فقط كاختيار تقني أو كسياسة قطاعية، بل كرهان على بناء الثقة، وإعادة توزيع الأدوار بين الدولة والمجتمع، وتجديد العقد الاجتماعي في ضوء التحديات الجديدة: من التفاوتات الاجتماعية، إلى التغيرات المناخية، إلى الثورة الرقمية، إلى الضغوط المالية التي تواجهها الدول في عالم ما بعد الجائحة وعالم ما بعد الحرب....
ختاما، أود أن أشكر كل من ساهم في تنظيم هذه الندوة، من زميلاتي وزملائي في الكلية، ومن شركائنا في المرصد الوطني للتنمية البشرية، وأخص بالذكر الأستاذ عثمان كاير والأخ والصديق سي نور الدين لزرق، الكاتب العام للمرصد. كما أجدد شكري وتقديري لكل الضيوف الذين لبوا الدعوة، وساهموا بحضورهم في إغناء هذا اللقاء، الذي نريده تقليدا معرفيا يتجدد، ومنصة للحوار البناء والمنتج."