يوسف مريمي: نداء التَّنوير في كتابات كمال عبد اللَّطيف

يوسف مريمي: نداء التَّنوير في كتابات كمال عبد اللَّطيف كمال عبد اللطيف ويوسف مريمي (يسارا)
نظمت شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بتعاون مع مركز روافد للدراسات و الأبحاث في حضارة المغرب وتراث المتوسط " ومؤسسة فهارس لخدمات الكتاب، ندوة تكريمية للأستاذ كمال عبد اللطيف ، وذلك يوم الأربعاء 14 ماي2025 بمدرج الشريف الإدريسي قدمت خلالها العديد من المداخلات والشهادات تضمنها كتاب جماعي بعنوان :" التنوير أفقا " قدم له ذ. محمد نورالدين أفاية.
"أنفاس بريس " تنشر النص الكامل لمساهمة الأستاذ يوسف مريمي التي أختار لها كعنوان: "نداء التنوير في كتابات كمال عبد اللطيف :
 
تنتظــم أعمــال كمــال عبــد اللَّطيــف، تأليفًــا وتدريسًــا، ضمــن أفـقٍ تاريخـيٍّ وجَّـهَ أعمـال مفكِّـري «النَّهضـة» في مشـرق ومغـرب العالـم العربـيِّ منـذ بدايـة القـرن المنصـرم، وذلـك في سـياق إرادةٍ جامعـةٍ رامـت بلـورة ممكنـات تجـاوز التَّأخُّـر العربـيِّ الشَّـامل عـبر الانخــراط في مســارات الحداثــة والتَّحديــث، واحتــال وجهــات نظــرٍ انفتحــت علــى منجــزات العقــل الــذي أسَّــسَ هــذه الحداثــة، ولــم يكــفَّ عــن ابتــكار مــا يتيــح رصــد أعطابهـا ونقـد انزياحاتهـا. في نطـاق هـذا الأفـق، لا يتقـدَّم الفكـر الفلسـفيُّ بِعَـدِّه تصريفًـا لأحــكامٍ قطعيَّـةٍ وإغفــالًا لعِـبر التَّاريــخ، أو بحســبانه محــض درسٍ مجَّــانٍّي محايـدٍ، كمــا لــن يرتــدَّ هــذا الفكــر إلــى هوايــة شــرح نصــوصٍ نتباهــى بفهــم طابعهــا الصَّعــب والمســتعصي، فيكــون فكـرًا هائمًــا في فضــاء المجـرَّدات، فاقـدًا مــن ثـمَّ اللِّقــاء بالواقــع والحيــاة، ومنســلخًا تمــام الانســاخ عــن كلِّ قضيَّــة. إنَّ الفكــر الفلســفيَّ حســب كمــال عبــد اللَّطيــف هــو بالأولــى انخــراطٌ في «معــارك» التَّغييــر، و«انتصــارٌ» لقيــم التَّنويــر، وانحيازٌ للإنسان والتَّقدُّم والتَّاريخ.
في ورقتنـا هـذه، نحـاول أن نـبرز نظـرة كمـال عبـد اللَّطيـف لهـذا الانخـراط الـذي يتبــدَّى عنــده في قــراءةٍ تنــادي بضــرورة وصــل الفكــر النَّهضــويِّ بالفكــر الفلســفيِّ مــن جهـة كونـه فكـرًا متسـائاً،  أو مـا يَسِـمُهُ الرَّجـل بعبـارة: «الفكـر المسـاعد علـى التَّغييـر1»، بمـا يـدلُّ علـى التَّفكيـر المقتـدر علـى اجـتراح مـا يتيـح تخطِّـي التَّأخُّـر عـبر طـرق دروب

-1 كمال عبد اللَّطيف، الفكر الفلسفيّ في المغرب، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2013، ص .32
 
التَّنويـر في شـرطٍ طبيعـيٍّ وتاريخـيٍّ مـا تفتـأ تشـتدُّ أزماتـه.1 والحـقُّ أنَّ المحـدِّق في شـرطنا المعاصـر، مـا يلبـث يستشـعر هـذه الحاجـة المسيسـة لإصاخـة السـمع إلـى فكـرٍ فلسـفيٍّ لا يقـف عنـد الدَّعـوة إلـى التَّغييـر، بـل يتجاوزهـا إلـى توفيـر مـا يتيـح إحـداث تحـوُّلاتٍ عميقـةٍ في الثَّقافـة والمجتمـع، أي إلـى فكـرٍ لا يكتفـي بأن يظـلَّ مهادنًـا، توفيقيًّـا أو تلفيقيًّا، بل أن يكون فكرًا نقديًّا، مسائاً ومزعجًا.
وباختيـاره سـلك طريـق النَّقـد والسـؤال، فـإنَّ كمـال عبـد اللَّطيـف يعبِّـر مـن جهتـه عـن سـمةٍ تميِّـز النُّصـوص الفلسـفيَّة المغربيَّـة المفصحـة، في أهـمِّ إنتاجاتهـا، عـن مقـدارٍ معتـبٍر مــن الإزعــاج والمقاومــة  تحركهمــا روح أنواريــة واضحــة. إنَّ هــذا عيــن مــا انتبــه إليــه عبــد الواحــد آيــت الزِّيــن، إذ يقــول: «نفتــح ســجاَّت النُّصــوص الفلســفيَّة، أو ذات الطَّابــع الفلســفيِّ في المغــرب، فيظهــر أنَّهــا ومهمــا اختلفــت في مرجعيَّاتهــا ورهاناتهــا ومحرِّكاتهــا الظَّاهــرة منهــا والســريَّة، فإنَّهــا تتوجَّــه في مجملهــا إلــى القــارئ باعتبارهــا مقاومــةً أو إزعاجًــا، أو تأزيمًــا للواقــع، كمــا للمعرفــة والفكــر. لا تتوانــى أوراق جيــل الظَّمــأ، وليليَّــات فصــول جيــل الاختــاف، في تقديــم نفســها كمقاومــةٍ مزعجــةٍ. إنَّهــا مقاومـةٌ لاسـتعمارٍ متوحِّـشٍ غـزا «الـذَّات» فعرَّفهـا علـى أسـئلةٍ لـم تخطُـر علـى بالهـا.2» فالظَّاهــر أنَّ الأنــوار لا تحضُــر عنــد مفكِّرينــا بوصفهــا حقبـةً تاريخيَّـةً أو أنســاقًا مكتملـةً مرصــودةً لكــي تُتلقَّــى بصــورةٍ حرفيَّــةٍ، وخافًــا لذلــك تتقــدَّم الأنــوار بوصفهــا موقفًــا نقديًّــا ودفقــةً تســاؤليَّةً. والمؤكَّــد أنَّ كمــال عبــد اللَّطيــف مــن طينــة هــؤلاء المفكريــن المزعجيــن، لا بصياغــة الأجوبــة أو بنــاء الأنســاق، بــل بطــرح أســئلةٍ وبلــورة قــراءاتٍ تتفحَّـص منسـوب النَّقـد وتقيـس القـدرة علـى اخـتراق حصـون التَّقليـد ومقاومـة مظاهـر الاســتبداد. وعلــى غــرار قبيـلٍ مــن المفكِّريــن المغاربــة،  نذكــر منهــم تمثيـاً لا حصـرًا، محمَّــد ســبيا وعبــد السَّــام بنعبــد العالــي وســالم يفــوت ومحمَّــد نــور الدِّيــن أفايــة، يصــل كمــال عبــد اللَّطيــف مــع الفلســفة، لا بوصفهــا نســقًا، بــل باعتبارهــا ممارســةً، ويلتحــق بالأنــوار، لا بوصفهــا حقبــةً تاريخيَّــةً حدثــت وانتهــت، بــل بحســبانها موقفًــا
 
-1 ونحـن لا نحصِّـل إلَّا حاصـاً حيـن نقـول بـأنَّ الفكـر الفلسـفيَّ مـا كان إلَّا تطويـرًا لموقـفٍ نقـديٍّ يراجـع أحكامنا المسبقة حول شروطنا الطبيعيَّة والتاريخيَّة.
-2 عبـد الواحـد آيـت الزيـن، «الفلسـفة بوصفهـا مقاومـةً وإزعاجًـا؛ جيـل الظَّمـأ وجيـل الاختـاف في ذلـك سيَّان»، مجلة المناهل، العدد 105، 2022، ص .197
 
فلسفيًّا يسم النَّقلة من إيديولوجيا التَّنوير إلى فلسفة الأنوار أو روح الأنوار.1
إنَّ الفلسـفة  إزعـاجٌ ومقاومـةٌ، هكـذا كانـت هـي مـع سـقراط المزعـج، وعلـى هـذه الشَّــاكلة ظلَّــت مــع كبــار الفاســفة إلــى اليــوم. وإذا كان جيــل دولــوز يــرى أنَّ غيــاب الفلســفة، مغــزاه ســطوة البهامــة  bêtise، فــإنَّ الفكــر الفلســفيَّ هــو «مقاومــة» و»إزعــاج» لهـذه البهامـة التـي لا تسـكن الحـسَّ المشـترك وحسـب، بـل تعتـور أحكامـا تقـدِّم نفسـها في ثـوب الموضوعيَّـة والمنطـق، كمـا لـو أنَّهـا أحـكام نهائيَّـة حـول عالـم النَّاس والأشـياء.
والحــقُّ أنَّ هــذه المقاومــة تتبــدَّى في أعمــال كمــال عبــد اللَّطيــف في رصــد وإزعــاج الامتيــازات الاَّتاريخيــة  التــي يضفيهــا البعــض علــى التَّقليــد، ورفــض تحمُّــس البعــض للنَّسـخ الحـرفِّي للحداثـة في تنـاسٍ  صـارخٍ لجوهرهـا النَّقـديِّ، ومـن ثـمَّ المطالبـة بمواقـف «الحسـم» و»الوضـوح» في الفكـر والسِّياسـة. ولمَّـا كان الفكـر النَّهضـويِّ مطالبًـا بالبحـث عــن ســبل التَّغييــر، فهــو كان مدعــوًّا إلــى تعليــق مســبقات التَّقليــد و»تشــريح أصــول الاسـتبداد» وتعميـق طـرح الأسـئلة، والإصـرار علـى التوسُّـل  بالعقـل ومقتضيـاتٍ أنواريَّةٍ نقديَّـةٍ تمتنــع عــن مداهنــة النُّــزوع التَّوفيقـيِّ وتكســر انغــاق الفكــر التَّقليــديِّ.  وإن عبَّــر  الفكـر النَّهضـوي باحتشـامٍ عـن هـذا النُّـزوع الأنـواريِّ في بواكيـره الأولـى، فإنَّـه تـدرَّج في الإفصــاح عنهــا مــع تجــاوز مفعــول الصَّدمَــة نحــو تشــكيل وعيــه بذاتــه، ولا مريــة في أنَّــه اليوم مطالبٌ بجذريَّةٍ تتطلَّب الدَّرجات العا من الوضوح والحسم.
إنَّ الفلسـفة مـا هـي إلا توضيـحٌ لغمـوض التَّجربـة. ولقـد تجلَّـت هـذه التَّجربـة في الحـدث المزعـج الـذي عبَّـرت عنـه صدمـة المهـزوم أمـام آخـرٍ ليـس لـه مثيـل في متخيَّـل العــرب، وعلــى حيــن غــرَّةٍ، ألغــى هــذا الآخــر، بقــوَّة الواقــع، كل تمثُّاتنــا عنــه وعمَّــا يســمَّى بـــ»هويَّتنــا.» ولذلــك لا يمكــن القــول بــأن الفكــر النَّهضــويّ العربــيّ في بداياتــه الأولــى، قــد تأســس علــى قاعــدة «إرادةٍ طيِّبـةٍ»  تســتقصد فهــم واقــع التَّخلــف والتَّــردِّي، وإنَّمـا كان فكـرا يجسِّـد اسـتفاقةٍ مـن أحـام التَّقليـد علـى كوابيـس  الواقـع، بحيـث عاصـر مفكِّــرو النَّهضــة عجــز «شــبه ذاتيَّـةٍ» عربيَّـةٍ لـم تجــد مــن ســاح تــذوذ بـه عــن نفســها، في حمــأة انكســارها، ســوى أوهــام وأمجــاد الماضــي التَّليــد التــي ســرعان مــا تهافتــت أمــام صابــة النَّــار والحديــد. لقــد ولَّــد جــبروت الـ»آخــر» المســتعمر والمتســلِّح بالعلــم
-1 يُنظر الفصل الأول من كتاب:
كمــال عبــد اللَّطيــف، التفكيــر في العلمانيــة؛ إعــادة بنــاء المجــال السياســي في الفكــر العربــي، القاهــرة: منشورات رؤية، .2006
 
والتقنيَّــة، صدمــة  عميقــة في الوجــدان العربــي الخــارج مــن غفلتــه، ومهَّــد ليقظـةٍ فكريَّـةٍ مــن ســباتٍ دغمائــي طويــلٍ، يقظــة حرَّضــت علــى طــرح الأســئلة في ثقافــة اســتمرأت الأجوبــة الجاهــزة، وحثَّــت علــى الاجتهــاد بعــد اســتحاء اجــترار الأحــكام المكرِّســة للجهل والاستبداد.
في نطــاق هــذا الاجتهــاد المفــروض، تجنَّــدت طائفـةٌ فكريـةٌ لا تترجَّــى صاحهــا إلَّا في اســتعادة ماضيهــا  المفقــود، ولــذا فهــي لــم تــتردَّد في القــول بــأنَّ ســبب التَّخلــف يكمــن في الابتعــاد عــن هــذا الماضــي بمــا هــو فــترة محــدَّدة في التاريــخ، بــل هــو فــترة تتعالـى علـى كل تاريـخ طالمـا تتضمَّـن مـا فيـه صـاح كل الأمكنـة والأزمنـة. تتمثَّـل هـذه الطَّائفــة في الســلفيَّة التــي يتحــدَّث عنهــا كمــال عبــد اللَّطيــف وفــق نمــط مــن القــراءة التاريخيَّـة، ويقـول: «تمكننـا القـراءة التاريخيَّـة للسـلفيَّة مـن تبيـن أنَّ المشـروع السـلفيَّ، سـواء في صورتـه التأسيسـيَّة مـع الأفغـاني ومحمـد عبـده في نهايـة القـرن الماضـي [يقصـد
]19، أو في امتداداتــه الحاليَّــة في دائــرة مــا أصبــح يعــرف بالصَّحــوة الإســاميَّة، يشــكل نمطــا مــن أنــواع الوعــي المرتبــط بصراعــات العالــم الإســامي. فهــي نمــوذج لرؤيــةٍ معتمــدةٍ علــى مقدمــاتٍ دينيَّـةٍ، تحــاول بواســطتها تفســير التَّاريــخ والمجتمــع لمواجهــة أحــوال التَّأخُّــر السَّــائدة داخــل المجتمعــات الإســاميَّة، ولمواجهــة الإيديولوجيَّــات المتصارعــة داخلهــا.1» لقــد بقيــت الســلفيَّات منشــدَّة إلــى رحــم الحلــم الــذي يولــد الاسـتيهام والطوبـى، وإلـى يومنـا هـذا فهـي لا تـكل مـن تجريب وصفـةٍ منتهيـة الصَّاحية مـن وجهـة النَّظـر التاريخيَّـة. أكثـر مـن ذلـك، إنَّ جـرح النهضـة لا يـؤذي والحـال هـذه،
لأنـه جـرح مـسَّ جسـدا ميتـا، لا ذاتـا وفكـرا وشـعورا. وفي هـذا النطـاق، لا يمكـن لنـداء الأنـوار: «تشـجع علـى اسـتخدام عقلـك»، إلَّا أن يكـون صرخـة في وادٍ، لأنَّ القافلـة تعـود القهقرى؛ فلكأن الصحوة تحصل، لكن داخل الحلم، خارج الواقع.
بخــاف التصــور السَّــلفي في الإصــاح، انتبــه لفيـفٌ آخــر مــن مفكــري النَّهضــة العربيَّــة إلــى ممكنــات جديــدةٍ في التَّشــخيص، وهــو لفيــفٌ انتــدب نفســه لفهــم الواقــع بإعمـال العقـل والحـض  علـى التَّغييـر عـبر القطـع مـع طـرق التَّفكيـر السَّـائدة، التـي تعتـبر مــن بيــن الأســباب الرَّئيســة للتَّخلــف والضعــف. لــم يكــن هــذا اللَّفيــف وريثــا لســلف صالــح، بــل شــاء أن يكــون ابنــا لزمانــه، وأن يرتبــط بإشــكالات الحاضــر وفهمهــا عــبر
-1 كمــال عبــد اللَّطيــف، مفاهيــم ملتبســة في الفكــر العربــي المعاصــر، بيــروت: دار الطليعــة، 1992،
.35 ص
 
اسـتلهام عـدَّة فكريَّـة حديثـة. في هـذا النطـاق التَّجديـدي، طرحـت أسـئلة الهويَّـة والتَّقـدم والحريَّـة مـن خـال منظـورات غيـر معهـودة، أو لنقـل لا نظيـر لهـا في ثقافتنـا، منظـورات شــرَّعت النَّهضــة  العربيَّــة علــى المنجــز الفكــري الحديــث، السياســي منــه علــى وجــه خــاص (الليبرالــي والماركســي.) لقــد اجتهــد هــذا اللَّفيــف لكــي يشــخص الواقــع، فأجمــل عوائــق التَّقــدم والتحديــث في تغلغــل الاهــوت وســطوة السياســة والطغيــان الدَّاخلــي، وفي النَّزعــات الكولونياليَّــة والقهــر الخارجــي. بنــاء علــى هــذا التَّشــخيص، تمَّــت المطالبــة بنــوع مــن التَّأســيس الــذي تتحــدَّد معالمــه في التَّغييــر السياســي، وهــو التَّأســيس الــذي عبَّــر عــن التَّوتــر القائــم بيــن مطلــب النَّظــر وهاجــس السياســة، وشـكَّل البــؤرة الأولــى للقــول الفلســفي للنَّهضــة العربيَّــة، البــؤرة التــي «تركَّــزت في المســتوى السياسـي، وبالضَّبـط في مسـتوى الدَّعـوة السياسـيَّة والإصـاح  السياسـي» والتـي ركنـت في كثيـر مـن الأحيـان، حسـب كمـال عبـد اللَّطيـف، «إلـى مقتضيات الممارسـة  السياسـيَّة،  والإهمال الواضح لمتطلَّبات النَّظر.1»
علـى أنَّ هـذا الحكـم لا ينفـي أنَّ الفكـر النهضـوي قـد سـلك، منـذ أطـواره الأولـى
وبصــورة تدريجيَّــة، مســارات اغتنــت بالعمــق التَّنظيــري واحترمــت باقتــدارٍ متطلَّبــات النَّظــر العقلــي. وشــيئا  فشــيئا، ســيأتي مفكــرون ســيعملون علــى توســيع مســاحة التَّنويــر لكـي «تسـتوعب فضـاءات أكـبر للعقـل والأنـوار، وذلـك بعـد أزيـد مـن نصـف قـرنٍ علـى
صــور وأنمــاط تلقــي نهضويــي مطلــع القــرن العشــرين لهــذه القيــم2»، كمــا ســيتمثَّلون بطـرق مختلفـةٍ روح فلسـفة الأنـوار، بحيـث سـتبلور «أعمالهـم نوعـا مـن الحـوار النَّقـدي والإيجابـي مـع أرصدتهـا في الفكـر والسياسـة والتَّاريـخ.3» ولتبيـان هـذا الأمـر، سـتفصح أعمــال كمــال عبــد اللَّطيــف عــن غــوصٍ عميــقٍ في نصــوص فكــر النَّهضــة المتعــدد في مرجعيَّاتـه والمتبايـن في حساسـيَّاته و منطلقاتـه الفكريَّـة، نصـوص روَّاد النَّهضـة الأوائـل مــن قبيــل شــكيب أرســان،  محمــد عبــده، رفاعــة الطَّهطــاوي، ســامة موســى، فــرح أنطــون، لطفــي السَّــيد، طــه حســين، أو نصــوص نهضويــي النصــف الثَّــاني مــن القــرن الماضــي، مــن طــراز محمــد عابــد الجابــري،  عبــد الله العــروي، هشــام جعيــط، حســن حنفــي علــى ســبيل المثــال لا الحصــر. وإذ يقــدم كمــال عبــد اللَّطيــف موقفــه مــن
-1 كمال عبد اللَّطيف، الفكر الفلسفي في المغرب، ص .21
-2 كمال عبد اللَّطيف، في الحداثة والتَّنوير والشَّبكات، منشورات المتوسط، 2020، ص .31
 
الســجالات -الظاهــرة والمســتترة- التــي دارت بيــن مشــاريع أجيــال ونخــب النَّهضــة، فإنـه يعمـد إلـى الكشـف عـن الأفـق الجامـع بينهـا، وهـو مـا يتحـدَّد بنظـره في أفـق التَّنويـر بغاية إحداث التَّغيير.
وعليــه، فليــس بالإمــكان غــض الطــرف، حســب كمــال عبــد اللَّطيــف، عــن أنَّ الاجتهــادات الفكريَّــة  النَّهضويــة التــي خاضــت معركــة التَّغييــر لــم تتــوان عــن اســتلهام الفلســفة الأنواريَّــة، وهــو الاســتلهام الــذي تمخَّضــت عنــه صــور معينــة مــن العقانيــة: عقانيـة إدراك الفـارق، عقانيـة المماثلـة، عقانيـة  الوعـي بالـذات. وإن كان كمـال عبـد اللَّطيــف يثمــن صــور العقانيَّــة الأولــى، فإنَّــه يولــي الأهميَّــة  لعقانيَّــة الوعــي بالــذَّات التـي أفرزتهـا أعمـال هشـام جعيـط، ومحمـد عابـد الجابـري، ومحمـد أركـون، وعبـد الله العــروي، مــع اهتمــام أكـبر بالمشــروع التَّاريخــاني لهــذا الأخيــر، مــن جهــة كونــه واحــدا مــن المشــاريع الفكريَّــة التــي شـخَّصت بعمــق واقــع التَّأخُّــر، ورصــدت بجــدارةٍ عوائــق التَّحديــث، واســتوعبت  أهميَّــة الحداثــة والأنــوار. لــذا ســيثمن كمــال عبــد اللَّطيــف مطالبـة العـروي للمثقَّفيـن العـرب  باجتيـاز العقـدة النفسـيَّة التـي تمنـع مـن الانفتـاح علـى الآخــر، ومناداتــه بضــرورة التَّعلــم مــن الآخريــن كعتبــة أساسـيَّة لانفتــاح علــى «المتــاح اليــوم للبشــريَّة جمعــاء.» ذلــك أن هــذا المتــاح يتحــدَّد في أولويَّــة العقــل، وفي الضَّــرب بالصَّفــح عــن مختلــف صــور الرجعيَّــة في الفكــر والسياســة والســلوك، وفي تغليــب الوضــوح والبســاطة، وضــرورة إضفــاء المزيــد مــن الطَّابــع الائكــي الــذي ميَّــز الإرث الفلسـفيَّ  الأنـواريَّ. ولعـلَّ أهـمَّ مـا وسـم عاقـة العـروي بالأنـوار، يتجلـى في كونـه لـم يمــارس عمليَّــة تخنــدقٍ تنســخ قيــم التَّنويــر بصــورةٍ حرفيَّــةٍ، بــل إنَّــه عمــد إلــى «بنــاء
كيفيَّـاتٍ أخـرى في النَّظـر إلـى الديـن والسياسـة والمجتمـع، كيفيَّـاتٍ تسـعفنا ببنـاء مواقف وخيــاراتٍ،  مكافئــةٍ لطموحاتنــا النَّهضويــة ولمقتضيــات حاضرنــا وتاريخنــا.1» وبتتبعــه لأشــكال حضــور وتلقــي الأنــوار في الفكــر العربــي، وكيفيَّــات ترجمــة بعــض الأعمــال ومـدى نقـل إيحاءاتهـا وتأصيـل مضامينهـا،  يبـدو أنَّ كمـال عبـد اللَّطيـف لا يهتـم بصورها القائمـة المكتملـة أو بمضامينهـا المذهبيَّـة، بقـدر مـا ينشـغل بالحكمـة الموجهـة للأنـوار: «تجـرَّأ علـى اسـتعمال عقلـك الخـاص»، وينـادي بضـرورة اجـتراح سـيرورةٍ لاسـتعمال الجذريّ للعقل.

 
لكــن، مــاذا نقصــد  بالجذريَّــة هنــا؟ لكــي نفهــم معنــى هــذه الجذريَّــة، يمكــن أن نعـود إلـى ميشـال فوكـو ونصّـه الكَثيـف: «مـا الأنـوار؟1»، حيـث يشـدد علـى أنَّ فلسـفته وإن كانــت تمضــي أبعــد مــن حــدود العقــل الكانطــي، فإنَّهــا لا تخــرج عــن أحــواز العقانيَّــة الأنواريَّــة. والواقــع أنَّ فوكــو يــرى أنَّ الحداثــة برمَّتهــا، وبمــا هــي إجابــة عــن سـؤال «مـا الأنـوار؟»، فهـي تحقيـق جـذري لــ «الموقـف النَّقـدي2» الـذي ميَّـز الفلسـفة منــذ ســقراط. وإذا عدنــا إلــى جــاك ديريــدا، فســنجده يــرى، مــن جانبــه، أنَّ «التَّفكيــك» - معـول مـن معـاول نقـد العقـل وأنسـاقه - مـا كان إلَّا ضربـا مـن الإعمـال غير المشـروط للعقــل، وهــو الإعمــال الــذي يرفــض أن يقــوم علــى أيّ فرضيَّـةٍ قبليَّـةٍ أو حكـمٍ مســبقٍ.  يقــول جــاك ديريــدا: «إنَّ التَّفكيــك - إذا وجــد شــيء بهــذا النَّعــت - ســيظلّ في نظــري عقانيَّــة لا مشــروطة، مــا تنفــكّ تعمــل، باســم أنواريَّــةٍ للمســتقبل تحديــدا، وفي نطــاق يســمح بانفســاح ديموقراطيَّــةٍ للمســتقبل،  علــى أن تلغــي بكيفيَّــةٍ حجاجيَّــةٍ، نقاشــيَّةٍ،
عقليَّــةٍ، كلَّ الشّــروط والفرضيَّــات والتَّوافقــات والأحــكام المســبقة، عقانيَّــة مــا تفتــأ تنتقـد بنحـوٍ لا مشـروطٍ كلَّ الشَّـروط، بمـا فيهـا تلـك التـي مـا تـزال تشـرط فكـرة النَّقـد.3» لعـلَّ ديريـدا وهـو يتكلَّـم عـن «أنواريَّـة المسـتقبل» و»ديمقراطيَّـة المسـتقبل»، فهـو يفسّـر
معنـى الانتسـاب إلـى العقانيَّـة مـن جهـة كونـه تحقيقـا لصـورةٍ متميّـزةٍ مـن صـور الوفـاء
التــي لا تخلــو مــن موقـفٍ نقــدي حــر، يكافــح لإلغــاء كلّ شــرط أو عائــق. حســب هــذا التصــور، يمكــن للرؤيــة الفلســفية أن تلــج أفــق الممكــن عـبر نقـدٍ جــذري لا يكــف عــن إحـداث شـروخٍ في المعـارف والسـلط القائمـة، حيـث يصيـر الشـرخ ثقبـا بتعبيـر هيغـل، ثـم جسـرا نحـو عقانيـةٍ وديموقراطيـةٍ مسـتقبليتين. بهـذا المعنـى، يقتضـي إعمـال العقـل أن نــداوم علــى اســتحضار مطلــب الجذريــة، أي أن يكــون إعمــالا  متاخمــا لمــا يســميه موريــس بانشــو «فكــر المســتقبل4»، أو مــا انتبــه إليــه كانــط في نصــه التأسيســي حــول الأنـوار، حينمـا رأى أن عقانيـة الفلسـفة الحديثـة لـم تبلـغ بعـد حالـة الرشـد، وإنمـا هـي تتجــه صــوب هــذه الحالــة التــي ترمــي إلــى أن تتخفــف مــن كل وصايــةٍ:5 عقانيــةٍ وديموقراطيــةٍ للمســتقبل. بالتالــي، قــد لا نجانــب الصــواب بالقــول إننــا أمــام تصــورٍ للأنـوار لا يعنـي هجـران مَمْلَكَـة مَلَكَـة العقـل، بـل إنـه لشـد مـا يتعلـق بهـذا العقـل حينمـا
1-    Michel Foucault, Qu‘est-ce que les Lumières ?, Bréal, 2004
2-    Ibid., p. 21.
3-    Jacques Derrida, Voyous: deux essais sur la raison, Paris: Galilée, 2003, p. 197.
4-    Maurice Blanchot, Penser à venir, Paris: Gallimard, 1986.
5-    Emmanuel Kant, Qu‘est-ce que les Lumières ?, trad. Poirier & Proust, Paris: Garnier-Flammarion, 1991, p. 43.
 
لا يقتصــر علــى انتقــاده وحســب، فيجــرؤ هــذه المــرة علــى انتقــاده وهــو يحــاول انتقــاد نفســه. وبهــذا، فــا مجــال للحديــث غيــر المــبرر والمتســرع عــن الانزيــاح عــن طريــق الأنوار، لأنها كما يقول بحقٍّ هابرماس: «مشروع غير مكتملٍ.»
وفي الســياق ذاتــه، يقــول كمــال عبــد اللَّطيــف: «نعتقــد أن الوفــاء لقيــم الفلســفة يدعونـا لا إلـى اسـتعادة الأنـوار بـدون أيّ احـتراسٍ نقـديٍّ، ولا إلـى رفضهـا باسـم الدفـاع عــن هويــةٍ عميــاء، وأصالــةٍ مطلقــةٍ، بــل إلــى التفكيــر فيهــا بالســلب، مــا دمنــا نســلم بإيجابيـة روحهـا، ومطابقـة مبادئهـا الكـبرى لمتطلبـات لحظتنـا التاريخيـة الراهنـة، فلنعـد النظـر إذن في أصولهـا، في إحفاقاتهـا، في نتائجهـا في التَّاريـخ والسياسـة والفلسـفة.1» فـإذا انطــوى الفكــر العربــي المعاصــر علــى «تأويــل إيجابــي لفكــر الأنــوار2»، فــإن هــذا لــم يمنـع كمـال عبـد اللَّطيـف  مـن معاينـة أن نصـوص النَّهضوييـن الأوائـل تبيـن عـن ضـربٍ مـن الحماسـة التـي اعـترت مشـاريع مفكريـن مـن طـراز فـرح أنطـون، وشـبلي الشـميل، وأديــب إســحاق، وســامة موســى، ولطفــي الســيد، وعلــي عبــد الــرازق، وطــه حســين، وفــؤاد زكريــا، ومــراد وهبــه. ذلــك أن فــرح أنطــون، علــى ســبيل المثــال، لــم يــتردَّد في الدَّعـوة إلـى نحـوٍ مـن التَّغريـب، القائـم لا علـى النَّقـد والوعـي، بـل علـى مجـرد النَّسـخ والاســتعادة.3 لقــد أبانــت النصــوص الأنواريــة العربيــة الأولــى، في نظــر كمــال عبــد اللَّطيــف،  عــن حماسـةٍ أيديولوجيَّـةٍ، وعــن القليــل مــن النَّظــر النَّقــدي، المؤصــل للفكــر الفلســفي، بحيــث أن الاهتمــام بمتطلبــات الدعــوة الأيديولوجيـة المعتمــدة هيمــن علــى المبــادئ العامــة لفلســفات  عصــر الأنــوار، ممــا أدى إلــى تقليــص متطلبــات النظــر الفلســفي، وطغيــان النظــر إلــى الأنــوار بمــا هــي بديــل عقائــدي للعقائــد والحقائــق المطلقة السائدة.4
وإذا كان كمــال عبــد اللَّطيــف يرفــض اعتبــار الحداثــة مشــروعًا مكتمــاً، فإنــه ســيرفض أيضًــا إصــرار بعــض مفكرينــا علــى الدعــوة إلــى القطــع مــع الأنــوار، لأنهــا الســبب حســبهم في مــا يحــدث لنــا اليــوم مــن اســتغالٍ وحــروبٍ. تشــي هــذه الدعــوة
-1 كمال عبد اللَّطيف، التفكير في العلمانية، ص .48 -2 المصدر نفسه، ص .25
-3 المصدر نفسه، ص .27 -4 المصدرنفسه، ص .28
 
بسـوء فهـمٍ كبيـرٍ للأنـوار، فتخالهـا حقبـةً تاريخيـةً ومضاميـن كولونياليـة، وتغفـل عـن أن الأنـوار تجسـيد لموقـف الفلسـفة النَّقـدي. يقـول كمـال عبـد اللَّطيـف: «إن الفكـر الـذي يخاصــم الأنــوار ليتحصــن بالقيــم التَّقليديــة، ويركــب الأصوليــات مجــددًا، متخليًــا عــن مآثرهــا في النَّظــر النَّقــدي، وفي عمليــات التحــرر مــن قيــود الاهــوت، يتناســى أن قيــم التَّنويــر كانــت ومــا تــزال تشــكل عتبــةً ضمــن مشــروع في الحداثــة والتحديــث، وهــو مشـروع تاريخـي مفتـوح، ويمتلـك القـدرة علـى إبـداع مسـاراته المتعـددة، كمـا يمتلـك القدرة على مواجهة أعطابه.1»
وهـذا «النحـن» الـذي مـا نلبـث نبحـث لـه عـن خصوصيـة، كيـف تشـكل؟ لا شـك في أنــه كان انفتاحًــا قبــل أن يكــون انغاقًــا. فهــو ليــس وحــدةً أساســيةً، صافيـةً ونقيـةً لــم تشــبها شــائبة. إن كل وحــدة هــي تجميــع لمتعــدد، وحضارتنــا هــي كباقــي الحضــارات، نشــأت بالانفتــاح علــى متــاح عصرهــا. وهــذا الكــوني نفســه، مــا هــو؟ إنــه علــى التدقيــق وجهــة نظــر محليــة، توســعت فصــارت تتقــدم في صــورة تتعالــى عــن كل وجهــة نظــر محليـة، أي في صـورة كونيـة. وحيـن نعـي هـذا الأمـر، يجـدر أن ننظـر إلـى أنفسـنا، لا في إطــار الكــوني المتعالــي، المفصــول عــن جــذوره التــي تهبــه حيــاةً وحركـةً، بــل في نطــاق
كــوني أشــمل وأعمــق، يســميه موريــس ميرلوبونتــي ب»الكــوني الأفقــي 2»latéral، المتجـذر في محيـط يغتنـي بـه ويغنيـه. ثـم إن هـذا «الآخـر»، لـم يكـن مسـتعمِرًا وحسـب، بــل كان معلِّمًــا: لقــد نبهنــا إلــى تخلفنــا، وكان خزانًــا مــن المعرفــة والعلــم لا يجــب أن
نجـد حرجًـا في النَّهـل مـن معينـه، فالآخـر جحيـم كمـا علمنـا سـارتر، لكنـه جنـة وفرصـة كمــا علمنــا غابريــال  مارســيل. فلــم لا نــدع جانبًــا عقــدة النقــص والتقصيــر، ونتخلــص مــن الميــل إلــى التباكــي، ونبــادر إلــى التعلــم ورفــع قيــود الاهــوت والاســتبداد مثلمــا فعلــت أمــم ذاقــت الويــات كاليابــان وألمانيــا. إذ مــا البديــل عــن الاســتعمال الجــذري للعقــل؟ ولمــاذا نقــرن الأنــوار بالتوحــش وهــي تدعــو إلــى التغلــب عليــه؟ أوليســت الأنــوار انتصــارًا للتاريــخ والتقــدم الإنســانيين؟ أفلــم نتعــب مــن تقديــم بديــل عــدا فكــر ارتكاســي لا يكــف عــن البــكاء وتقديــم الــدروس الأخاقويــة والانحنــاء لأوثــان  النصوص المتوارثة؟
-1 كمال عبد اللَّطيف، في الحداثة والتَّنوير والشَّبكات، ص .42
2-    Maurice Merleau-Ponty, «De Mauss à Claude Lévi-Strauss» (1959), dans Signes, Paris: Gallimard, 1960, p. 193-194,
 
قــد يكــون مــن الصحيــح أن لحظــة الأنــوار في صورتهــا العربيــة تقتضــي، في نظــر كمــال عبــد اللَّطيــف، إعــادة إنتــاج  البنــاء مــن أجــل ترســيخ الفلســفة والمفهــوم بصــورة جديــدة، لكــن هــذا لا يذهــب بــه إلــى حــد الدفــاع عــن خصوصيــة مــا للفكــر والواقــع العربييــن، بــل إنــه يرمــي إلــى رد الاعتبــار «في مجــال المثاقفــة والإبــداع للمتغيــرات الخاصــة، التــي تســاهم في تطويــر الأفــكار في الزمــان، خاصــةً وأن المنظومــة الأنواريــة ترتبــط بنظــام الحداثــة الأوروبــي، الــذي تؤطــره ثــورات علميــة وسياســية واجتماعيــة غائبــة عــن صيــرورات الأحــداث، في التاريــخ العربــي المعاصــر.1» ذلــك أن اســتلهام الأنــوار لا يمكــن أن يتــم في نظــر كمــال عبــد اللَّطيــف دون التفكيــر  في أولياتهــا في الفكــر والتاريـخ، ولهـذا يقـول: «نعتقـد أن الوفـاء لقيـم الفلسـفة يدعونـا لا إلـى اسـتعادة الأنـوار  بــدون أي احــتراس  نقــدي، ولا إلــى رفضهــا باســم الدفــاع عــن هويــة عميــاء، وأصالــة مطلقـة، بـل إلـى التفكيـر فيهـا بالسـلب، مـا دمنـا نسـلم بإيجابيـة روحهـا، ومطابقـة مبادئها الكـبرى لمتطلبـات لحظتنـا التاريخيـة الراهنـة، فلنعد النظـر إذن في أصولهـا، في إحفاقاتها، في نتائجها في التاريخ والسياسة والفلسفة.2»
وصـاً بمـا سـبق، يمكـن القـول بأننـا لـن نكـف عـن التمـاس الحاجـة إلـى أنواريـة جذريــة، بمــا هــي بــؤرة نقديــة تزلــزل خطابــات المهادنــة والارتــكاس، أي إلــى تفعيــل مســتمر للموقــف النَّقــدي الحداثــي، موقــف لا يهــادن، بــل يحقــن إبــر اليقظــة في نســيج تجــارة النــوم الرائجــة اليــوم، ويــزرع الســؤال  في رحــم ثقافــة الجــواب، ويفضــح آليــات التســلط والاســتبداد، ويعــري مواقــف التــواكل وأخــاق الطاعــة. ولذلــك، فــإذا كان التَّغييـر حسـب كمـال عبـد اللَّطيـف هـو الأفـق الجامـع لتطلعـات النخـب في مجتمعاتنـا، فإنـه لـن يكـون بالشـكل المرغـوب إلا إذا كان ناهضًـا علـى قيـم التَّنويـر، ونعنـي الشـكل الــذي يفــرز تجــارب وممارســات سياســية ديموقراطيــة تنتصــر لقيــم العيــش المشـترك، وتراعـي إنسـانية الكائـن، مثلمـا تراعـي التاريـخ والتقـدم. وفي غيـاب هـذه القيـم ستشـتد الضائقـة أكثـر، وسـتفرز مـن جديـد تلـك الهشاشـة التـي تسـتبعد الأسـئلة الكـبرى وتنفـر مــن المراجعــة. وليــس مــن المســتغرب أن تتبــدى هــذه الهشاشــة بجــاء في ميــدان السياســة، هــذا المجــال الــذي وجــد مــن أجــل البحــث عــن «المصلحــة العامــة» وتدبيــر شـؤون النـاس. وربمـا هـذا مـا لـم يسـتوعبه معظـم فاعلينـا السياسـيين بعـد، إذ غالبًـا مـا
-1 كمال عبد اللَّطيف، التفكير في العلمانية، ص .47 -2 المصدر نفسه، ص.48
 
تختــزل السياســة عندهــم في مشــاريع لا تحركهــا إرادة الانخــراط في التغييــر والمراجعــة النقديـة للتصـورات المغلوطـة حـول تدبيـر الشـأن العـام، إنهـا مشـاريع تسـتبعد في أحيـان كثيـرة الأسـئلة الكـبرى المتعاليـة عـن «المصالـح الخاصـة»، وهـي بهـذا تكـون «مشـاريع محـدودة الأفـق سياسـيا  وثقافيـا.1» تغـرق نخبنـا في سياسـة المنـاورة والخديعـة والمكـر، لكنهـا  لا  تفهـم  «السياسـي» الـذي يغلـب المصلحـة العامـة، وإشـراك المواطـن في تدبيـر الشـؤون العامـة، والنظـر إلـى الديموقراطيـة  باعتبارهـا  «الصيغـة  السياسـية  الأكثـر  نجاعـة في عالمنــا»، مــع الامتنــاع عــن إضفــاء أي طابــع إطاقــي أو «امتيــاز لا تاريخــي» علــى النظام الديموقراطي، يحول دون نقده ومساءلته، بغاية تجويده وإلغاء عثراته.
إن نـداء الأنـوار، أي تفعيـل وتجذيـر الموقـف النَّقـدي، يمسـي فرضيـةً فلسـفيةً في زمننــا، أكثــر مــن أي زمــن مضــى، لا ســيما في أيــام يشــيع فيهــا التخلــف عــبر وســائل يمتلكهــا الجميــع. يومــا بعــد يــوم، يســتفحل معيــش التخلــف والجهــل، حيــث تتوطــد طــردا صــور التَّقليــد وآلياتــه في مجتمعنــا وثقافتنــا  وأنظمتنــا في التربيــة والتعليــم، وذلــك بمــوازاة انتشــار دائــم لقضايــا تافهــة ومنحطــة تغــذي وتغــزو  وســائطنا الاجتماعيــة، وصــارت شــغل النــاس الشــاغل. في هــذا الصــدد، يــرى كمــال عبــد اللَّطيــف أن «الاكتشــافات التــي حققتهــا أدبيــات التَّقليــد في العوالــم الافتراضيــة، تدعونــا اليــوم إلــى مباشـرة مواجهـات جديـدة، تمكننـا مـن تحصيـن مشـروعنا في التَّحديـث والتَّغييـر.2 فلقـد أضحــى الافتراضــي  رحمًــا لإفــراز شــتى أنــواع البهامــة والحماقــة، ومكرسًــا لأشــكال ســاذجة مــن التَّقليــد، لا تكــف عــن التكاثــر والتناســل بصــورة ســريعة، حتــى أن إيقافهــا يعـد ضربـا مـن الاسـتحالة. ولهـذا كان سـبيل «المقاومـة المزعجـة» هـو السـبيل الأنجـع، عـبر زرع بـذور التنويـر في جسـد الثقافـة الافتراضيـة، وذلك تأسـيًا بمـا دعا إليه الفيلسـوف الأنـواري دنيـس ديـدرو: «فلنسـارع لكـي نجعـل الفلسـفة شـعبيةً»، إذ في غيـاب الفلسـفة لا تجد البهامة ما يقاومها، فتتفاقم.
الفيلسـوف  هـو الإنسـان الـذي يسـتيقظ مـن عتمـة كهـف البهامـة، كهـف الظـال والضـال، يلمـح فوهـة النـور، فيتعقـب نـداءه الـذي ينيـر رؤيـة خارجـة لتوهـا مـن ليلهـا المظلــم، ويدفعهــا إلــى اللقــاء بعــرض العالــم وعطــاء الأشــياء والأحيــاء. هكــذا غــادر
-1 كمال عبد اللَّطيف، في الحداثة والتَّنوير والشَّبكات، ص .7 -2 المصدر نفسه، ص .8
 
سـقراط «المأدبـة»، تـاركا المدعوييـن غارقيـن في نومهـم علـى الأرض والأرائـك، لكـي يباشـر نـورا يحرضـه علـى الرؤيـة، بلـه يدفعـه إلـى إيقـاظ أهـل المدينـة والمنـاداة بتحكيـم العقــل. علــى النحــو ذاتــه، اســتيقظ كانــط، واجتهــد في انتقــاد العقــل بغيــة إيقاظــه مــن ســباته الدغمائــي. وعلــى غرارهمــا،  نحــا فوكــو نحــو إيقــاظ العقــل مــن شــكل آخــر مــن أشــكال النــوم: الســبات الأنثروبولوجــي. إن النــداء هــو نــداء عقــل يقــظ، لا يرضــى إلا بأشـد أنـواع الوضـوح في مواجهـة غمـوض الوجـود الطبيعـي، ومجابهـة أخطـار الوجـود الاجتماعـي. ولذلـك مـا كان نـداء الأنـوار صوتـا تائهـا دونمـا معنـى أو هتافـا انفعاليـا، بـل ظــل دعــوة للجــرأة علــى الاســتيقاظ مــن ســبات العقــول المســتقيلة، والشــجاعة علــى اســتخدام العقــل وعــدم الخــوف مــن تجديــد النظــر الدائــم في الحقائــق  والأحــكام، والتحــوط مــن الســقوط في الســبات الدغمائــي الــذي يهددنــا حيــن نصــم الأذن عــن الإنصـات للنـداء. إن نـداء التنويـر حركـة تفكريـة متوثبـة، وقودهـا يقظـة ورغبـة في الفهـم ومســاءلة للمؤســس الــذي نرتمــي فيــه ابتــداء. إن النــداء هــو الفلســفة ذاتهــا حيــن تتقــدم بوصفهـا يقظـة، ذلـك لأن رفـض التفلسـف، معنـاه إغمـاض العيـن والامتناع عـن فتحهما (ديــكارت)، كمــا أنــه إهــدار لفرصــة النظــر والاســتمتاع بــإدراك العالــم والتعــرف عليــه ومسـاءلته (ألان.) إن صـم الأذن عـن نـداء التنويـر، هـو تعـاط لدغمائيـة العيـن المغمضة، واستحاء للقصور والطاعة والخضوع.
لــذا، تكمــن الغايــة مــن هــذا الإنصــات، في بلــوغ مــا يســميه كانــط ب»الإنســانية الناضجــة»، حيــث لا تكــون عبــارة: «تجــرأ علــى اســتخدام عقلــك الخــاص» مجــرد شــعار، قــدر مــا تفصــح عــن حكمــة توجيهيــة لــكل اجتهــاد يــروم الانعتــاق مــن عتمــات الكسـل والقصـور، عـبر يقظـة العقـل وحريـة التفكيـر. تظـل هـذه «الإنسـانية الناضجـة»، حسـب كانـط نفسـه، أفقـا ومطلبـا لـم يتحقـق بعـد، إذ أن غايـة ووجهـة النـداء، تتمثـل في الإعمــال النقــدي والجــذري للعقـل. بعبــارة أخــرى، إن «الإنســانية  الناضجــة» حــرة مـن كل وصايــة،  وهــي بهــذا تعـبر عــن منحــى ومعنــى التاريــخ حسـب كارل ياسـبرز، الــذي يــرى أن التاريــخ هــو صيــرورة تقــرن وتماهــي بيــن الإنســان والحريــة: فــا تحديــد للإنسـان، والإنسـانية عمومـا،  عـدا حريـة تتحقـق في سـياق مسـار تاريخـي مخـترق بنـداء تعميــق اســتعمال العقــل. ولهــذا يجــب أن ننتبــه إلــى أن الحقيقــة أفــق بــا عنــوان نهائــي (دغمائــي)، وأن مقــدور البشــرية هــو البحــث المتواصــل  عــن الحقيقــة، لا امتاكهــا. لايهـم إن وصلنـا أو لـم نصـل، فمـا يهـم هـو أن هـذه الإنسـانية سـتظل مطلبـا، ورائدهـا في
 
ذلــك مــا يســميه تزفيتــان تــودوروف «روح الأنــوار»، أي موقــف الأنــوار الــذي ينــادي بالاجتهاد ضد الكسل، والنضج ضد الوصاية.1
لقـد لبـى النـداء فاسـفة ومفكـرون، ونجـم عـن هـذه التلبيـة، عقانيـات تفاعلـت مـع ماضيهـا حاضرهـا، واستشـرفت مسـتقبلها، وبذلـك كانـت مركـوزة في قلـب التاريـخ. إن كمــال عبــد اللطيــف، وحيــن يصــدح بالنــداء، فإنــه يلتقــي بــروح أنواريــة تفيــض مــن أعمالــه ودروســه، بوصفهــا رغبــة في الفهــم  والإفهــام، واليقظــة والإيقــاظ، والمســاءلة والتســآل، روح تنبــه إلــى أن مــن لا ينصــت للنــداء، لــن يــدرك قيــم الحــق والخيــر والجمــال، بــل ســيكون خــارج تاريــخ الإنســانية الــذي يتوجــه نحــو التحــرر والتغييــر، مدفوعا بمحرك التنوير.
لكننـا وإلـى اليـوم، مـا نـزال نصـم الأذن عـن نـداء الأنـوار، ومـا نـزال نعيـش ذلـة وهـوان الأمـس القريـب، فلـكأن الجهـل والاسـتبداد قدرنـا في الأمـس القريـب، واليـوم، وربمــا في المســتقبل القريــب. يقــول كمــال عبــد اللَّطيــف: «يواجــه العــرب اليــوم منحــدرات دون قــرار ودون أفــق سياســي واضــح، ويقــف أغلبهــم فــوق أرض تتمايــل، وسـماء لا أعمـدة لهـا، تغشـاهم غيبوبـة في اليقظـة، ويغيبهـم النَّـوم ليـا.. تمتلـئ حياتهـم بالبــكاء والانقبــاض والمواويــل الحزينــة، وتنتابهــم، أحيانــا، لحظــات مــن الضحــك الهســتيري.. يبســملون كثيــرا، ويتمثَّلــون بقناعــة  وزهــو قيــم التَّــواكل والخنــوع، ويحلــم أغلبهــم بزينــة الحيــاة ومفاتنهــا.2» لقــد أفصحــت أعمــال كمــال عبــد اللَّطيــف المتأخّــرة عــن الشــعور التراجيــدي الــذي يتملــك المفكــر العربــي وهــو يقــف حائــرا أمــام تأخُّــر تاريخــي يكتســح  جعرافيــة تمتــد مــن المحيــط إلــى الخليــج، ويحتــل زمنيــة تتســع منــذ بدايـة القـرن المنصـرم إلـى أيامنـا هـذه، تأخُّـر شـامل مـا يفتـأ يتغلغـل في الفكـر والسياسـة والاقتصـاد، ومـا انفـك يتفاقـم حتـى صـار «ضائقـة تاريخيـة» خانقـة تشـل الفكـر أحيانـا، وتبتلــي الوجــدان بالخيبــة والحســرة. وفي إحــدى نصوصــه المتأخّــرة، يعــود كمــال عبــد اللَّطيــف ليندهــش مــن المتفائليــن أمــام هــذا التَّأخُّــر  المتفاقــم، الــذي يغتــال الأمــل في التَّغييــر حاضــرا أو ارتقــاب مســتقبل مرغــوب في الأفــق المنظــور القريــب، وضــدا في وعــود أيديولوجيَّــات بدايــة القــرن، يطالــب الرجــل بمــا يســميه «الحــق في اليــأس»،
-1 تزيفيتـان تـودوروف، روح الأنـوار، تعريـب حافـظ قويعـة، صفاقـس: دار محمـد علـي للنشـر، 2007،
.142-143 ص
-2 كمال عبد اللَّطيف، عيون الموناليزا، منشورات المتوسط، 2022، ص .60
 
ويقــول: «أريــد أن أعـترف أمــام كل هــذا الــذي يقــع داخــل مجتمعاتنــا، دون رقيــب ولا حســيب، ودون قــدرة علــى التخلــص منــه ومــن تبعاتــه، أن اليــأس وحــده هــو الــدَّرب الممتــد أمامنــا برحابــة وســخاء.. وأعجــب مــن أســاليب الإقنــاع أو الرفــض التــي يســتعملها المقتنعــون والرافضــون.. أتأكــد مــرة أخــرى مــن ضــرورة إعــان حقــي في اليأس.1»
لقــد بــدأت النَّهضــة العربيَّــة بنغمــة تبشــيريَّة تطفــح بالوعــود المطمئنــة، وترشــح بألـوان الانتظـار والطوبـى، لكـن هـا هـي اليـوم تنتهـي إلـى نـبرة يـأس واضحـة. إذ يبـدو أننـا مـا نـزال نفتقـد لـكل  اسـتعداد أنطولوجـي لإخضـاع الـذات لمحـك النقـد ووضعهـا محـل تسـاؤل، فمـا بالـك بالسـير في دروب التقـدم وإلغـاء عوائـق التحديـث ورفـع موانـع الاســتفادة مــن متــاع المتــاح للنــاس جميعــا. فبعــد الأمــل في إشــاعة الأنــوار وإصاخــة الســمع لندائهــا، نعايــن أن التَّقليــد والجهــل  قــد وجــد لــه منابــر تذيعــه طيلــة الوقــت لجمهــور أعــزل مــن ســاح الإدراك النَّقــدي. أدهــى مــن ذلــك، يخــرج مفكــرون نكوصيـون لا يجـدون حرجـا في معـاداة الأنـوار، بـل وربـط الفلسـفة ذاتهـا بمـا يتعـارض معهــا مــن خرافــات صوفيَّــة، في ضــرب ســافر لمــا أسَّــس للفلســفة  ذاتهــا، أي «الشَّــجاعة علـى البحـث عـن الحقيقـة» و»الشـجاعة علـى قولهـا.» لقـد كانـت النَّهضـة حلمًـا واعـدًا بممكنـات جديـدة في الفكـر والسـلوك والحيـاة، ويظهـر اليـوم أن ورثتهـا يسـتيقظون علـى كابوس أجهض التطلّع وبدَّد الأمل، وشرع على دروب اليأس.
ولقـد نعلـم أن اليـأس مفهـوم ظفـر باهتمـام كبيـر عنـد كثـر مـن الفاسـفة، إذ يشـير عمومـا إلـى تناهـي الوجـود البشـري، والشـعور التراجيـدي بالتعـب (نيتشـه)، كمـا يؤشـر أحيانــا علــى  لحظــات الإخفــاق الكــبرى واســتحاله بلــوغ الســعادة (كيركغــارد.) وإذ تنطلـق مطالبـة كمـال عبـد اللطيـف بالحـق في اليـأس مـن تفاقـم التأخـر التاريخـي، إلا أن اليـأس عنـده لا يحيـل إلـى اليـأس الحزيـن أو «العدمـي» العقيـم، بـل يقصـد يأسـا إيجابيا: «اليـأس التاريخـي» مـن ممكنـات متجـاوزة. لـم يعـد ممكنـا اليـوم أن نبقي على حماسـتنا الســلبية في اســتلهام الأنــوار، مثلمــا لــم يعــد ثمــة مـبرر لكــي نغيــب «جــرأة» الأنــوار، أو نحتشــم في طــرح الأســئلة. يامــس اليــأس التاريخــي روح الأنــوار في نظرنــا، لأنــه يــأس يســتدعي المقاومــة «بأســاليب التعقــل التاريخــي، القــادرة علــى ابتــكار مــا لــم نجربــه
-1 كمال عبد اللَّطيف، في الثقافة والسياسة وما بينهما، بيروت: منتدى المعارف، 2020، ص .220
 
بعــد.1» بهــذا المعنــى، يمســي اليــأس باعثــا أو عتبــة لولــوج محطــات «المراجعــات الكـبرى»، فهــو الباعــث علــى القطــع مــع المتجــاوز وعلــى الحاجــة إلــى تجربــة طــرق مائمـة لحاضرنـا والانخـراط في آفـاق منتجـة لعقانيـة أكثـر جذريـة ووضوحـا وفعاليـة. وليـس أدل علـى ذلـك مـن مفهـوم «التجربـة» في العـرف الأنـواري: أليسـت الأنـوار جـرأة
علـى اسـتعمال العقـل؟ إن مفهـوم الاسـتعمال )servir( هـو بالتحديـد مفهـوم تجريبـي2، وهــو مــا يجعــل مــن الأنــوار موقفــا نقديــا متجــددا، يقيــه مــن آفــة الدغمائيــة والإحبــاط. ولعـل هـذا مـا انتبـه إليـه كمـال عندمـا حـدد «اليـأس التاريخـي» بتجربـة ممكنـات جديـدة
في الفكر والسلوك، وهو بهذا يظل وفيا لنداء الأنوار إلى المدى الأبعد.
*
وفي الأخيــر، نقــول بــأن أعمــال كمــال عبــد اللَّطيــف قــد واكبــت بكفــاءةٍ عاليــةٍ المنجـز الفلسـفيَّ النَّهضـويَّ، وأظهـرت مآثـره وحـدوده، عـبر قيـاس مـدى إنصاتـه لنـداء الأنــوار الــذي صدحــت بــه الفلســفة منــذ ســقراط، بلــه منــذ هيراقليطــس وبارمنيــدس، النــداء الــذي حــرك النظــر الفلســفي في احتكاكــه بعالــم الأشــياء والأحيــاء. وفي ســبيل ذلـك، لـم يكـن كمـال عبـد اللَّطيـف مـن النـوع الـذي يبتنـي لأفـكاره نسـقا يحصنهـا مـن النَّقـد، إنمـا هـو أبـدع في طـرح الأسـئلة وفي رصـد وتثميـن النمـط الفكـري المسـاعد علـى التَّغييــر، بحيــث يمكــن القــول بــأنَّ مأثــرة كمــال  عبــد اللَّطيــف تتمثــل في المنــاداة بطــرحٍ متجــددٍ للأســئلة، والتوســيع المتواصــل لمســاحة التنويــر، وزرع قيــم النَّقــد والتَّحــرر. وهــو مــا لا يســتقيم في نظــر الرجــل إلا عـبر الإنصــات لصــوت العقــل،  وتكريــس منطــق الفعل الذي يراهن على الحسم مع موروث الخرافة والتَّواكل.
«تســاءل، واصــل التَّســاؤل»، في هــذه العبــارة مــن روايــة «الصَّخــب والعنــف» لوليام فوكنر، يكمن نداء/درس كمال عبد اللَّطيف.
...........
-1 المصدر نفسه، ص. .221
-2 ولهــذا كانــت العقانيــة الأنواريــة الكانطيــة، عقانيــة نقديــة، أي جمعــا بيــن وضــوح العقــل وغمــوض التجربة.